الأربعاء 3 أبريل 2013 / 11:37
لا شك أن اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية أمر مفرح لكل عراقي وعربي، خصوصاً وأنه يأتي بعد سنين من العزلة والحروب والحصار. والدكتاتورية أكرر، إنه أمر مفرح للغاية على رغم ضبابية مصطلح "عاصمة الثقافة العربية"، فليس معلوماً ما المقصود من هذا المصطلح؟ وكيف يمكن أي مدينة أن تصبح عاصمة للثقافة، ناهيك أن تكون عاصمة للثقافة العربية بكل تنوعاتها واختلافاتها.
وكي لا نشتت الأفكار في تعريفات الثقافة ومفاهيمها ودلائلها، والتي ما زالت محل جدل منذ عشرات السنين، دعونا نتفحص الإعلان الذي توَّج بغداد عاصمة للثقافة العربية والذي افتتحه قبل أيام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ووزير الثقافة العراقي سعدون الدليمي (الذي جمع بين وزارتي الدفاع والثقافة لأكثر من عامين!) ومسؤولون آخرون بكلمات أشادوا فيها بتاريخ بغداد وانجازاتها واستحقاقاتها وهو كلام ليس محل خلاف عند معظم المراقبين.
لقد حضر الافتتاح عشرة وزراء ثقافة عرب على الأقل، بينهم وزيرة الثقافة السورية، وعدد من الفنانين والمثقفين العرب، على رغم غياب أو تغيب العديد من الأسماء المهمة في عالم الثقافة العربية. أمر مفرح أيضا أن يأتي العرب إلى العراق بعد أن قاطعوه 22 عاما، 12 منها في عهد صدام حسين بعد احتلاله الكويت و10 بعد الاحتلال الأمريكي.
كما حضر إلى بغداد لإحياء هذه المناسبة عدد من المطربين العراقيين القدامى الذين كانوا يعيشون في الخارج منذ ما يقارب العقدين، وليس معلوماً إن كانوا سيبقون في بغداد أم أنهم سيعودون إلى مهاجرهم التي جاءوا منها بعد انتهاء احتفالات الافتتاح.
كذلك شهدت العاصمة العراقية في هذه المناسبة عروضاً مسرحية عديدة وحفلات موسيقية عامرة شارك فيها فنانون لهم وزنهم الفني وملايين المعجبين، كما موّلت وزارة الثقافة صناعة عشرة أفلام خصيصاً لهذه المناسبة.
ولكن هل يمكن اختصار الثقافة العربية بهذه الفعاليات؟ وهل يمكن بغداد أن تتحول فجأة إلى عاصمة للثقافة العربية لمجرد الإعلان الرسمي عن ذلك ومجيء بعض الفنانين والشعراء والوزراء إليها لبضعة أيام؟
بغداد اليوم تشبه ثكنة عسكرية كبيرة، فنقاط التفتيش وآليات الجيش والشرطة فيها تفوق أي عاصمة أو مدينة في العالم، ومنطقتها الخضراء، التي تضم أهم دوائر الدولة و منازل ومكاتب معظم المسؤولين، معزولة عن باقي أجزاء العاصمة بحواجز حديدية واسمنتية ولا يدخل إليها الزائر أو المواطن إلا بإذن خاص. وبعد عشر سنوات على التغيير، مازالت الحواجز الاسمنتية تشوّه شوارعها التي كانت يوماً جميلة، ومازالت مؤسسات ودوائر ومحال ومصانع ومساجد العاصمة محصنة بالحواجز والعساكر وقوى الأمن.
شوارع بغداد ومعالمها التاريخية مهملة وتثير الحزن في نفوس محبيها وكل من عرفها أو سمع بها. شارع الرشيد الذي يعتبر رمزاً لبغداد (قبل أن يتحول الرمز إلى ساحة الفردوس عام ٢٠٠٣) هو الآن شارع مهمل و ليس فيه الكثير من النشاطات بل تعلو أرصفته القديمة الأوساخ. الخدمات الأساسية في العاصمة هي دون الحد الأدنى. وما تزال هناك مبان مهجورة أو محروقة أو مهشمة النوافذ وعليها آثار الحروب السابقة واللاحقة. .وفي القرن الحادي والعشرين، ما تزال هناك حاجة في عاصمة الرشيد، للعربات التي تجرها الحمير والتي كانت ممنوعة قبل خمسة عقود.
آثار المفخخات والعنف منتشرة في كل مكان، من حطام السيارات والجدران السوداء إلى الأرصفة المحطمة والشوارع المحفورة والمغلقة. أما أسلاك مولدات الكهرباء، التي يستعين بها السكان عند انقطاع التيار الكهربائي، فقد شوهت الشوارع والمنازل والمكاتب لكثرتها وتشابكها العشوائي.
نعم هناك شارع المتنبي، وهو ربما المعلم الثقافي الحيوي الوحيد في العاصمة وسبب حيويته هو إصرار جمهور المثقفين العراقيين على إحيائه على رغم المصاعب الكثيرة التي تعترض ذلك، وفي مقدمتها الصعوبات الأمنية، ولا ننسى أن الشارع تعرض إلى العديد من التفجيرات الإرهابية خلال السنوات السبع الماضية. . وهناك أيضا المسرح الوطني والمتحف الوطني لكنهما لا يتمتعان بالشعبية المطلوبة بسبب انعدام الأمن وقلة المهتمين.
الثقافة ليست كتباً تقرأ ومسرحيات تعرض وأغاني تغنى فقط وإنما هي سيادة أنماط حياة طبيعية متنوعة يغمرها الأمن والسلام والوئام، وهي ازدهار تقاليد حضارية وأعراف وفنون، وانتشار للمعرفة والحضارة والابداع وشيوع للأمن والرخاء وقيم التسامح واحترام كامل لخيارات شرائح ومكونات المجتمع المختلفة، مهما كان ثقلها العددي.
الثقافة هي سيادة قيم الحرية والسلم والمعرفة والانتشار الطبيعي للأنماط الحضارية التي تتطور بشكل تلقائي ودون قسر أو فرض من جهة سياسية أو دينية أو قومية. وهي القبول بالآخر المختلف والمخالف، دينياً واجتماعياً وبالتأكيد قومياً. إنها انتشار لوسائل المعرفة من جامعات ومعاهد ومدارس ومكتبات ودور نشر ومطابع ونقابات ومنتديات أدبية ورياضية واجتماعية. هل هذه متوفرة اليوم في بغداد بما يرضي الحد الأدنى من الطموح؟ هل يمكن ان تتوفر في القريب العاجل او خلال فترة تتويج بغداد عاصمة للثقافة العربية التي لا تتجاوز العام الواحد؟
طبعا لا. فالكتب والمؤلفات العراقية كانت إلى عهد قريب تطبع في دمشق لتنتقل بعد خرابها إلى بيروت والقاهرة. والمنتديات الأدبية والاجتماعية مهددة وتغلق بين الفينة والأخرى حسب أهواء هذا المسؤول أو ذاك. والأمن ما زال هشا وليس هناك ثقة بأنه يتحسن. معالم الحضارة المألوفة مازالت غائبة، على رغم الجهود الحثيثة والمشكورة التي تبذلها جهات رسمية وأهلية.
السؤال الملح هنا هو لماذا يتسابق المسؤولون العراقيون لاستضافة مثل هذه المناسبات وهم يعلمون أن العراق غير مؤهل وغير جاهز لها؟ فهل يعتقدون حقاً انه بمجرد موافقة عدد من ممثلي الدول العربية أو الإسلامية التي تعاني هي نفسها من أزمات خانقة، فإن بغداد ستصبح عاصمة للثقافة العربية والنجف عاصمة للثقافة الإسلامية دون أن تكون هناك مؤهلات موضوعية على الأرض أهمها سيادة الأمن والحرية والحياة الطبيعية؟ بغداد ليست جاهزة يا سادة، واهتمامكم يجب أن يتركز في مجالات أخرى وهي إصلاح ما خربته الحروب والدكتاتورية والجماعات الإرهابية وما يخربه الجهل والتعصب والتعسف. أما الثقافة فإنها ستزدهر مع ازدهار الحياة.