الخميس 17 أبريل 2014 / 11:08

ضِيق لبنان باقتصاده


لا يحتمل لبنان، باقتصاده الصغير، الفساد الهائل الذي ينخر مؤسسات قطاعه العامة وجزءاً لا يستهان به من ذلك الخاص، وادخال تعديل كبير على رواتب الموظفين الحكوميين في آن واحد.

والحال أن مجموعة من الأزمات الاقتصادية والسياسية المتزامنة والمتداخلة، تجعل مجرد التطلع إلى تسوية للأزمة الاقتصادية التي تختصرها مطالبة موظفي القطاع العام بسلسلة جديدة للرتب والرواتب، يدخل في باب الأوهام، حتى لو أفلح مجلس النواب في اجتراح حل على طريقة البهلوانيات السياسية التي يتبعها في مقاربة العديد من المسائل، في انعكاس للتوازنات الدقيقة في الداخل اللبناني والمحيط.

والفساد في لبنان يختلف نوعاً عن نظائره في غيره من الدول العربية. ففي الوقت الذي تذهب عائدات الفساد في العالم العربي مباشرة إلى خزائن الأفراد المتورطين به، يساهم قسم مهم من أموال الفساد في لبنان في تمويل شبكات الأمان الاجتماعية التي تنشئها الزعامات الطائفية وفي إعادة إنتاج الزعامات هذه لنفسها ضمن صيغة السيطرة الطائفية على الدولة. ذلك أن لكل الطوائف مدارسها ومستشفياتها ومستوصفاتها وهيئاتها الإغاثية ناهيك عن ميليشياتها ووسائل إعلامها. قسم مهم من تمويل هذه المؤسسات يأتي من "الزعيم" المنخرط في نهب المال العام والذي يستغل هذه العملية في ثلاثة وجوه: الاول، تخفيف التوتر الاجتماعي داخل الجماعة التي يقودها من خلال توفير بعض الخدمات التعليمية والصحية لها. الثاني، إبقاء الجمهور المعني ضمن أطر الجماعة عبر إيهامه أن قيادته الطائفية "تتكرم" عليه وتتولى علاجه وتعليم أولاده وعليه في المقابل أن يرد فضائلها هذه أثناء الانتخابات يتجديد "البيعة" لها. الثالث، إبقاء كل القطاع الرسمي، من الأجهزة الأمنية إلى الجامعة والمدرسة خاضع لإشراف الإدارة الطائفية- السياسية للبلاد.

تداخل الفساد مع بنية الدولة ذاتها، يجعل من التصدي الجدي له عملية توازي في خطورتها تفكيك الدولة من دون وجود أطر سياسية واقتصادية بديلة. عليه، يتشارك السياسيون في هذه الآلية المفضية إلى تأبيد زعاماتهم، بغض النظر عن اعتراضات أخلاقية أو نخبوية هنا وهناك.

واحد من دوافع الحراك النقابي والمطلبي الحالي في لبنان، يكمن في تفاقم الأزمة الاقتصادية العامة. فمنذ بداية الثورة السورية، انهار تقريباً قطاع السياحة بسبب حظر دول الخليج مجيء رعاياها إلى لبنان وتضرر بشدة قطاع الترانزيت بعد انتعاش امتد من سقوط نظام صدام حسين الى 2011. وتراجعت الاستثمارات في القطاع العقاري، الوحيد المجدي اقتصادياً للمستثمرين المحليين والاجانب، نتيجة تدهور الوضع الأمني وانتشار عمليات الخطف والتفجيرات الانتحارية والمربعات السكنية المغلقة إضافة إلى الاكتظاظ الكبير للنازحين السوريين وما يشكلونه من أعباء متعددة الجوانب.

وفي بلد تشكل الأموال التي يحولها اللبنانيون العاملون في الخارج 17 % من إجمالي الدخل الوطني (ثالث أعلى نسبة في العالم بحسب أرقام البنك الدولي)، ناهيك عن الاستثمارات العقارية وبدرجة أقل الخدمية والتجارية العربية والأجنبية، يبدو الارتباط بين الاقتصاد اللبناني وبين الموارد الخارجية أكبر كثيراً مما يعتقد البعض.

انكماش الاستثمارات وموارد الدولة وارتفاع الاسعار والتضخم وعودة التحركات النقابية التي أرجئت طوال عامين بسبب تأخير تشكيل الحكومة وتوقف عمل مجلس النواب، يضع السلطة السياسية بين سندان ومطرقة. فعليها من جهة الاستمرار في نهجها المعهود من تمويل قواها الرئيسة لنفسها من المال العام عبر الفساد، وعليها في الوقت ذاته تدارك التصاعد الحاد في الازمة الاقتصادية الاجتماعية التي يقول حتى أصحاب المصارف أنهم لم يعودوا يقوون على تحملها.

السؤال عن العلاج يبدو في غير موضعه. فليس سهلاً على النظام السياسي اللبناني القائم على تقاسم وظيفي دقيق بين الطوائف، أن يطفئ الأزمة الاقتصادية من مال يسحبه من الهدر ومصادرة موارد الدولة، بما يخفف من قدراته على المناورة في داخل الطوائف وصفوف الموالين، ولا يسعه أن يضرب بمطالب الموظفين عرض الحائط على نحو يشعل فيه موجة عالية من لهب الاحتجاج الاجتماعي الذي قد يجد غطاء سياسياً له يختلف عن غطاء القوى الطائفية.

هنا، يجد "المشرّع" اللبناني نفسه بين نيران عدة. فعليه الانتصار لفريقه السياسي الذي سيخوض قريباً معركة رئاسة الجمهورية ولا يتنازل أمام ما يدعو خصومه إليه مهما كان، وعليه في الوقت ذاته ألا يظهر بمظهر المتاجر بآلام الطبقات الفقيرة فهذه ستذهب إلى صناديق الاقتراع لاختيار نواب جدد في العام المقبل. وعليه أيضاً أن يراعي مصالح طائفته ومن عينتهم في مواقع حساسة يشاركون عبرها في تمويل الزعامات الطائفية.

الحلول التي قد يفاجئ النواب أنفسهم بها ينبغي أن تخرج من قمقم تتصارع فيه كل أرواح الجن هؤلاء.