الخميس 24 أبريل 2014 / 01:01

في مديح البرتقالة


سأله البائع "أخدت من أبو 4 ولا من أبو 6"، أزعجه السؤال، إذ كان يؤمن أن مظهره لا يوحى أبداً بأنه من النوع الذى يأخذ من "أبو 4"، عندما يشترى الفاكهة بالذات يختار من الرصة ذات السعر الأعلى على الأقل ليشعر أنه "عمل اللي عليه" للحصول على أفضل ثمار ممكنة.

كان البرتقال الأخضر المعروض له جاذبية سحرية، الأخضر هو لون البرتقال في بداياته، من هنا جاء السحر، فكل شيء في الكون يأخذ في بدايته لوناً متميزاً وبمرور الوقت يعود إلى لونه التقليدي بداية من الحب نهاية بالبرتقال، لولا سحر البدايات لتوقف الكون عن الحركة .

أخذ برتقالة إلى غرفته ووضعها أمامه على المنضدة، احتار كيف يأكلها.

هل يأكلها من باب المعجزة الإلهية في هذه الثمرة؟، هل يتأمل تلك الرسالة الصغيرة التي تقول يمكن للضدين أن يجتمعا فيخلبان القلوب، طعم الملح و طعم السكر، في كل فص ينتصر أحدهما على الآخر، وعلى مدى ثمانية فصوص على الأقل يختبر الواحد ثمانية تجارب للائتلاف لا تشبه واحدة الاخرى، هل يمكنك أن تروى شهوتين في وقت واحد؟، الجوع و العطش، الفص يمكن أن يصبح لقمة تسند المعدة، وما الفص إلا قطرات ماء متراصة بإحكام، يمكنك أن تخلص في العبادة فتصبح روحك صلبة وحتى لا تنقلب الصلابة جفافاً يبل الله ريقك بنعم الدنيا التي حرضك عليها في رسالاته لتنعم بحياتك .

هل يأكلها من باب الطفولة؟، يعرف أنه كبر لأنه لم يعد يصادف في كيس البرتقال الذى أحضره والده ثمرة "البرتقال أبو دمه" حيث كان الفص يبدو من الخارج وكأنه قد أصيب بجلطة، كان دم البرتقال سكرياً جداً وعندما كبر عرف أن طعم الدم في كل الكائنات يميل لهذا المذاق، يتذكر أن المازني الأديب الكبير المعروف كان أول من أدخل زراعة هذا النوع من البرتقال في مزرعته بمديرية الشرقية، هو لم يقرأ حرفاً للمازني لكنه يعرف أنه كبر لأن نزلات البرد صغيراً كانت تعنى أكبر طبق برتقال ممكناً فوق البطانية ليشفى سريعاً ..الآن ولا خمسة كيلوجرامات ستشفيه بعد أن دخل مرحلة احتياج الجسد لفيتامين سي صريح عبر كسولة تحمل رقما مخيفاً (500)، يعرف أنه كبر لأنه لم يعد يعيش مع والدته التي تطالب الأسرة بالحفاظ على القشر لتبشره صانعة منه كيكة البرتقال، أو التي تطالبهم بـ "ماحدش يقرب من البرتقال" لأنه في طريقه لأن يصبح مربى تزينها حبات القرنفل اللاذعة التي ستزعجه كثيراً في الفسحة المدرسية وهو يتناول الساندوتش، كبر لأنه أصبح يعتمد على نفسه في تقشير الثمرة والخروج بها سليمة تماماً مهما كانت القشرة لزجة ومهما كانت الثمرة ضعيفة، وهى المهارة التي اكتسبها من كثرة الدخول والخروج من عربات المترو.

هل يأكلها من باب الفائدة الصحية؟

يقول علامة عصره وحكيم زمانه السيد "جوجل" في بحث عشوائي بدون علامات اقتباس، البرتقال عظيم الفائدة للمرضعات، هو لم يختبر هذه المسألة طبعاً لكنه تذكر رسماً تشريحياً لثدي الأم وتذكر أن غدة الرضاعة تشبه بالضبط ثمرة برتقال شفافة صغيرة، قال له "جوجل": البرتقال به 28عنصراً غذائياً أهمها الحديد والفوسفور والكالسيوم وفيتامين ب وفيتامين سي، يصفى الدم ويطرد البلغم، منطف للكلية والمثانة، ويعالج الإمساك، يقوى الأعصاب والقلب، يطرد الغازات والآثار السامة للأدوية، وصندوق برتقال في البيت أفضل من صيدلية صغيرة، أما نفسياً فهو منوم ومهدئ وملطف للمزاج وفاتح للشهية ويعتبره الصينيون رمز السعادة ويقول الفرس عن شجرة البرتقال إنها شجرة الفردوس.

فتنته ثمرة البرتقال فأمعن في التوحد معها ..

شجرة البرتقال صبور لا تطرح قبل أربع سنوات، إن صبرت عليها تظل كريمة معك ما لا يقل عن خمسين عاماً، شجر البرتقال في الحلم يعنى صحة موفورة ورزق وفير، لكن أكله في الحلم يعنى القلق والهم، بالرغم من أنك إذا حلمت بأنك تطعم زوجتك برتقالاً فهذا يعنى زوال الخلاف والمنغصات، لكن إذا رأيت نفسك نائماً فوق كومة برتقال فهذا معناه رحيل شخص تحبه، لم تفرق كتب الأحلام بين نوعية البرتقال (يا سيدى أهو كله برتقال ، لكن "أبو صرة" لا يحب الصحراء، والبلدي للعصير لكن يعاب عليه كثرة البذور، والسكرى ليس به نقطة سكر زائدة عن أي نوع، يبدو سكرياً لأنه خال من الحموضة فقط، والخليلي البيضاوي ذو القشرة الفاخرة السميكة خلقه الله مخصوصاً للتجار لأنه أكثر الأنواع تحملاً للشحن والسفر، وأشهر التجار في اليمن لقبها "ملكة البرتقال"، في اليمن يعتبر قيام النساء بمهنة التجارة عاراً يورث قبيلتها وصمة ذل لا تنمحي إلا بقتل هذه المرأة، لكن "آمنة العمراني" تحدت كل ذلك منذ ثلاثين عاما وسارت في تجارة البرتقال من نجاح إلى نجاح لا يساندها إلا زوجها لكن في المقابل قاطعها أشقاؤها وبقية أقاربها لسنوات، واجهت في السوق حرباً مميتة تقول عنها: "حاولوا معايا يكسروني كتير ومانفعش .. ما نفع إلا الله"، ملكة البرتقال لم يسبقها أحد في الكوكب إلى هذا اللقب، شاهدها في لقاء تليفزيوني منذ فترة، في عينيها تفرد غريب، ربما ستجد مثله في البرتقال الذى لو تكلم ستعرف أنه يكره أن يضعه أحد في تلك الثنائيات الساذجة "شوية برتقال وموز" أو "شوية برتقال ويوستفندى".

فكر أن يغنى للثمرة قبل أن يلتهمها، فكر أن البرتقال حظه سيء في الغناء، ما بين غنوة خالية من الحماس "ياللى زرعتوا البرتقان يالا اجمعوه" واستخفاف بحضوره في أغنية محمد رشدي "تحت الشجر يا وهيبة ياما كلنا البرتقان"، لكنه فجأة تذكر واحدة ظهرت في ظروف استثنائية، بعد أن كسر الأمريكان العراق، استطاعت هذة الأغنية العراقية أن تكسر الدنيا، أمسك الثمرة وبدأ في تقشيرها مبتسماً وهو يغنى لها "يا البرتقالة .. يا البرتقالة .. واش بيكي على ابن الناس .. عذبتي حاله .. يا البرتقالة".

كان يلتهم البرتقالة وهو غير متأكد إن كان كل ما سبق مجرد أفكار تتحرك في عقله أم أن البرتقالة كانت تكلمه بالفعل وتدلى له باعترافها الأخير .