الثلاثاء 10 يونيو 2014 / 23:45

"باقية وتتمدد"


بعد انتفاضة أهالي ريفي إدلب وحلب على تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش" أواخر العام الماضي، رفع التنظيم شعار "باقية وتتمدد" للقول أن دولته تمكنت من استيعاب وطأة طردها من مناطق واسعة وعادت إلى توسيع رقعة سيطرتها.

ومنذ أشهر تدور معارك في مناطق الأنبار في العراق تتبدل فيها الأطراف المتصارعة تبدلاً يبدو للوهلة الأولى محيراً. أهالي المحافظة يقاتلون قوات الجيش والأمن العراقية التابعة لرئيس الوزراء نوري المالكي. وهذه تقاتل مسلحي "داعش". ولا يندر أن تقع مواجهات بين "داعش" وأبناء العشائر المحليين.

ويدعو إلى الاستغراب الشديد سقوط الموصل، ثالث مدن العراق من ناحية عدد السكان، بتلك السهولة بيد مسلحين يبدون قليلي العدد وسيئي التسليح والتدريب.


وتشير المعلومات الصحافية إلى أن الجيش العراقي ترك كمية كبيرة من العتاد في أرض المعركة وعشرات الآليات العسكرية وحُكي عن وجود مبلغ نقدي كبير في فرع المصرف العراقي المركزي في الموصل. هذا إلى جانب إخراج المسلحين أكثر من ألفي سجين ما يذكر بفضيحة تهريب المعتقلين من سجنين عراقيين لإرسالهم للقتال في سوريا في أغسطس (آب) من العام الماضي.

وتبدو الموصل ومحافظة نينوى ناهيك عن الأنبار وعن صلاح الدين التي توجه إليها مسلحو "داعش" "ليتمددوا" فيها على ما يوحي شعارهم، لقمة أكبر بكثير من معدة تنظيم أياً يكن حجمه وعديده. وتعزز السيطرة على محطات البث الفضائية والمباني العامة وفرار قوات الجيش بعد معارك متقطعة بوجود تواطؤ ضمني على تسليم المدينة إلى "داعش" لأهداف عدة.

من جهة، يوفر تسليم "داعش" مناطق واسعة تسكنها الأقلية السنية مخرجاً من المطالب المرفوعة منذ انتفاضة الأنبار قبل عامين بالمشاركة السياسية ووقف التمييز على أساس طائفي والتي رفض المالكي التعامل معها وأرسل قواته لقمعها. فيتحول التنظيم المنشق عن "القاعدة" قوة أمر واقع يمثل المناطق السنية وأهلها. ونظراً إلى الطبيعة المغلقة لـ"داعش" والتي لم يعرف عنها أي قدرة على ممارسة العمل السياسي او الرغبة فيها، يكون المالكي وأنصاره قد أوصدوا الباب أمام أي مفاوضات ذات محتوى سياسي ونقلوا الصراع إلى الحيز العسكري المحض وهو ما يخدم في نهاية المطاف الوجهة التي سلكها رئيس الوزراء العراقي في تعامله مع الفلوجة وعشائر الأنبار.

ومن جهة ثانية، يُحبط المالكي كل المساعي الرامية إلى منعه من تولي رئاسة الحكومة لفترة ثالثة بعد النتائج غير الحاسمة التي حصل عليها في الانتخابات التشريعية آخر أبريل (نيسان) الماضي. صحيح أن المالكي ما زال المرشح "التوافقي" –إذا جاز التعبير- لإيران والولايات المتحدة، لكن الصحيح أكثر أن اعتراضات عميقة عليه يرفعها ممثلون كثر من "البيت الشيعي" في تياري الصدر والحكيم. وبتصعيده حدة القتال ضد "داعش" والعشائر ووسط الخسائر الفادحة لمدن عراقية كبرى، يمكن للمالكي تحويل الأنظار بسهولة عن أزمة تشكيل الحكومة والدعوة إلى تركيز الجهود والأنظار على الخطر الآتي من التنظيم المتشدد.

غني عن البيان أن الحضور الإيراني القوي في العراق واختراق طهران وأجهزتها القوى السياسية العراقية من الباب إلى المحراب. ومعروف أنها القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على دفع الأمور في العراق في الاتجاه الذي يلائمها منذ إلحاقها الهزيمة بالقوات الأمريكية وانسحاب هذه في 2011. بكلمات ثانية، يصعب التصديق أن نفوذاً بشدة واتساع النفوذ الإيراني في العراق تفوته خطوات في أهمية سقوط الموصل وتقدم مسلحي "داعش" إلى محافظة صلاح الدين التي تقع بغداد على طرفها الجنوبي. وتبدو موضع شك كبير رغبة التنظيم في الاحتفاظ بالموصل والتسبب بموجهة تهجير ضخمة في اتجاه إقليم كردستان الذي ألمح مسؤولوه علناً إلى رغبتهم في التدخل العسكري في نينوى وعزوا عدم تحركهم إلى رفض الحكومة المركزية في بغداد إرسال قوات كردية إلى الموصل. وملعوم أن وحدات من البشمركة انتشرت فترة طويلة في بغداد أثناء الاحتلال الأمريكي بعد ضمها إلى تشكيلات الجيش العراقي واعتبارها جزءاً منه.

هكذا تظهر قطع الأحجية ويتساوق مسار الآحداث في العراق في الشهور القليلة الماضية مع ما يجري في سوريا منذ مطلع 2013 ودخول "داعش" بقوة إلى الساحة السورية ونشرها الخراب في الثورة هناك. ورغم إعلان العداء لنظام بشار الأسد، لم يشارك التنظيم في أية معركة ضده ولم تتوقف الأدلة عن وجود تنسيق ولو غير مباشر بين "دولتي" بشار الأسد وأبو بكر البغدادي، ضمن استراتيجية أعرض تستند إلى العوامل العشائرية والطائفية وإلى إنهاك المجتمعات العربية.