الأربعاء 23 يوليو 2014 / 23:54

رحلة من الجنوب



بسبب الضغط الهائل على القطارات، في هذا التوقيت الذي اقترب معه العيد، وجدت تذكرة بالكاد، من الأقصر إلى القاهرة، رغم أن تحركي سيكون من قنا. هنا عليك أن تدفع دائماً مزيداً من المال حتى تحصل على ما تريده إذا كان أصلاً متوافراً. على المحطة وفي الظلِّ كانت درجة الحرارة تصل إلى خمسين، والهواء قادم كأنما من جهنم. كانت عيوننا تتعلق بساعاتنا، متمنين أن تلتهم العقرب الدقائق المتبقية، ولكن الدقائق مرت بطيئة وصعبة، قبل أن تحين اللحظة التي سيصل فيها القطار الفخم.

مرت خمس دقائق وبدأ الناس يتململون، وبعد خمس أخرى ارتفعت أصواتهم المتذمرة، وكان البعض يذهب إلى المنطقة المشمسة على الرصيف ليلقي نظرة إلى البعيد، بموازاة القضبان، لعله يلمح القطار، وكانت النار تعيده ملسوعاً إلى مكانه. جاء قطار بعد فترة، وظهر ناظر المحطة صائحاً كأنما يسخر منا: ده قطار الغلابة، هايسبقكم!

حينما توقف القطار الآخر انشقت الأرض عن عشرات كانوا كأنما يلبسون طاقية الإخفاء، جاؤوا من جميع الاتجاهات، وحتى بعد أن تحرك القطار استمروا في التوافد والقفز إليه من فتحات يفترض أنها أبواب. سأل أحدهم الناظر: ما الذي يحدث؟ فأخبره، بينما يتحرك باتجاه مكتبه، أنه في انتظار مكالمة تخبره بموعد وصول القطار. بعد نصف ساعة أخرى اتجهت إلى الناظر في مكتبه، وقبل أن أسأله بدأ يتحدث: القطار سيأتي في الثانية والنصف. لقد تأخر لأنهم اكتشفوا أن عربة منه بدون تكييف، وانتظروا قطاراً قادماً من القاهرة إلى الأقصر وفكوا إحدى عرباته ووضعوها بدلاً من الأخرى. جاء القطار متأخراً عن الموعد الذي قاله بخمس دقائق. ثم تحرك بعد دقائق تبدو طويلة، وطوال الطريق كان يتوقف بين المراكز، وفي قرى غريبة. جلس إلى جواري مصور جنائي، وبدأ يحدثني عن سرقة سيارته الأسبوع الماضي. لم أكن أصغي جيداً، فنحن نجلس في الكرسي الأول والثاني بجوار الباب، الذي كان ينفتح كل دقيقة تقريباً ليمر بائع كرات مضيئة، أو ساعات أطفال، وكانت هناك سيدة منتقبة تجلس بين العربتين وكانت تصرخ في شخص يدعى ياسر، مؤكدة له أنها لن تبيع نفسها بكنوز الدنيا، ثم تطالبه بأن يغلق الباب جيداً، بالطبع حتى لا نسمع، وكان الباب لا يحجب حتى جزءاً قليلاً من الصوت، واستمر حوار جنسي طويل بينهما، ثم فتحت الباب وهي تأمره بالسكوت لأنها ستبدأ في العمل، ورفعت طفلاً رضيعاً فوق كتفها، وبدأ تخاطب "المسلمين الموحدين بالذات"، وتقول إن ابنها يُعالج على نفقة الدولة بسبب مرض خطير، ولكنها تحتاج إلى 460 جنيهاً نظير شيء لم أتبينه جيداً، واختفى صوتها في العربة الأخرى، ولكنها عادت بعد قليل إلى مكانها مستعيدة حوارها مع ياسر.

اقترب المغرب، وكان السؤال الأساسي هل الإفطار يكون بتوقيت سوهاج أم أسيوط التي نتجه إليها، واشتريت وجبة من القطار. كانت قطع الفراخ الموضوعة داخل الساندويتش كأنما مصنوعة من زيت الديزل، أو البترول قبل تكريره. على أيٍ تحول الباب بعد قليل إلى مصدر غير عادي للإزعاج. عمال البوفيه كانوا يعبرون، وهم الوحيدون الذي كانوا يغلقون الباب خلفهم، ولكن الآخرين، وهم بائعو شاي من خارج البوفيه، وفول ولب وسوداني، وجلاب، وسميط، وشحاذون، استمروا في التقاطر بمعدل كل نصف دقيقة، ذهاباً وعودة، وكان الأمر خانقاً إلى أقصى درجة، وكنت أفكر فيما يحدث بالقطار "السبنسة" إذا كان هذا الحال مع القطار الإسباني. كنت أراقب الطريق وفجأة لمحت صبياً يمسك بحجر ضخم، ويلقيه بقوة في اتجاهي، وبسبب سرعة القطار انفجر الحجر لحسن الحظ أسفل الزجاج وعلى بعد مترين مني. في بني سويف طالت مدة وقوف القطار، وفي البداية تخيلنا أن الأمر له علاقة بلص كان ضابط ومجموعة أمناء شرطة يطاردونه على الرصيف وأمسكوه وانهالوا عليه بالضربات والصفعات، ولكن اتضح أن جرار القطار تعطل. حسنٌ.. علينا أن ننتظرهم حتى يحضروا جراراً آخر من الورشة. استمرت عملية التبديل حوالي ساعة، وهكذا دخل القطار الجيزة متأخراً عن موعده ثلاث ساعات. حينما فتحت الفيس بوك، بعد عودتي إلى المنزل، طالعت صورة شيَّرها الكاتب محمد خير المتواجد حالياً في ألمانيا، من داخل محطة مترو، ومعها هذا التعليق: "ساعة العقارب في محطة فريدرش فيلهلم فاضل لها دقيقة واحدة وتبقى 10.30 هي نفس الدقيقة اللي على لوحة الأرقام عشان يوصل مترو راتهاوس شتيجلتز. بعد دقيقة بالضبط المحطة الفاضية تماماً هاتتملي بالبشر تماماً".