الخميس 24 يوليو 2014 / 18:37

عامر وناصر.. الصداقة التي دمرها الصراع على السلطة



جدد المسلسل التلفزيوني «صديق العمر» الذي يتناول علاقة الصداقة بين الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» وأقرب قادة ثورة 23 يوليو المشير«عبدالحكيم عامر» الاهتمام بتأثير علاقة الصداقة بين أبطال التاريخ على ظواهره.. إذ لم تكن الصداقة بين الاثنين هي أولى علاقات الصداقة التي تركت بصماتها الغائرة على التاريخ المصري الحديث، إذ سبقتها علاقة الصداقة التي ربطت بين الزعيم «سعد زغلول» قائد ثورة 1919 وبين «عبدالعزيز فهمي باشا»، أحد قادة هذه الثورة في مرحلتها الأولى وعلاقة الصداقة التي جمعت بين «مصطفى النحاس باشا» - خليفة «سعد»- وبين «مكرم عبيد باشا» سكرتير عام الوفد، واستمرت خمسة عشر عاماً كان خلالها «مكرم» هو الرجل الثاني في الحزب العريق الذي كان يقود الحركة الوطنية وأكثر السياسيين نفوذاً في الحكومات الوفدية قبل أن تنتهي الصداقة في الحالتين إلى ما انتهت إليه الصداقة بين «ناصر» و«عامر» من تنافر وصراع.

وكان «أنور السادات» أكثر الذين أدهشهم صداقة «عبدالناصر» و«عبدالحكيم عامر» واعتبرها استثناء غير مفهوم في شخصية «عبدالناصر».

وفى رأي «السادات» أن «عبدالناصر» لم يكن يستطيع أن «ينشىء علاقة صداقة بمعنى الكلمة مع أي إنسان»، لأنه كان «متشككاً دائماً حذراً ومليئاً بالمرارة وعصبي المزاج»، «لا ينتمي إلى ذلك الصنف من الرجال الذين تحركهم مشاعرهم نحو الآخرين»، لذلك بدت له صداقة «عبدالحكيم عامر» و«عبدالناصر» استثناء لهذا الحكم، أدهشه حتى ظل يكرر دائماً أن «هناك علامة استفهام تظهر في الأفق كبيرة واضحة، كلما كان الأمر عند «عبدالناصر» يختص بـ «عبدالحكيم عامر»!

ولم يستطع «السادات» - في سيرته الذاتية «البحث عن الذات» - أن يخفي ضيقه بهذه الصداقة بل وحقده عليها، وهو ما أشار إليه صراحة، وبصيغة التعميم قائلاً: ان كل زملاء «عبدالناصر» كانوا يحقدون عليه، وإنهم ما زالوا يحملون في أنفسهم كمية كبيرة من هذا الحقد إلى الآن «1978» - وهي سنة نشر الكتاب - بل إنهم شعروا بالشماتة في الصديقين - «عبدالحكيم» و«عبدالناصر» - حين وقع انقلاب الانفصال السوري عن دولة الوحدة في 28 سبتمبر  (أيلول) 1961 .

والوجه الآخر لحقد «السادات» على هذه الصداقة يتمثل في مبالغته فى كتابه في إضفاء الأهمية على الأدوار الهامشية غير المؤثرة التي قام بها في عهد «عبدالناصر» وهي مبالغة قادته للكذب المفضوح، والتزوير المكشوف للوقائع، لكنها تفسر أسباب حقده، وربما حقد الآخرين على هذه الصداقة التي تقوى بها كل من «عبدالناصر» و«عبدالحكيم عامر» على الذين اشتركوا معهما في التحضير للثورة، وفي تنفيذها وغامروا معهما برءوسهم ليلة 23 يوليو  (تموز)عام 1952، فإذا بهذه الصداقة تتحول إلى محور يتقوى به كل من طرفيه، فارضاً على هؤلاء الشركاءالقبول بموقع التابع لهما، المحتمي بظل كل منهما مخيراً كلاً منهم بين الرضا بهذاالموقع أو الاختفاء من فوق خريطة السلطة.

بل إن «السادات» وجد نفسه مضطراً - بعد قليل من انتصار الثورة - إلى أن يضع نفسه - كما يقول «هيكل» - في حماية «عبدالحكيم عامر» وقد ظل في هذه الحماية حتى انتحار «عامر» حتى إنه كان واحداً من قليلين ممن عرفوا بزواج المشير «عامر» بالفنانة «برلنتي عبدالحميد» وأخفى ذلك حتى عن «عبدالناصر».

وفيما بعد وعندما اختلف «السادات» مع آخر زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة وهو «حسين الشافعي» والذي كان يشغل موقع النائب الوحيد له في رئاسة الجمهورية حتى عام 1975 وأرسل إليه يطلب منه الاستقالة، رفض «الشافعي» ذلك قائلاً للرسول: أنا صاحب بيت زيي زيه .. مش مستقيل!

ومنطق «حسين الشافعي» واضح ومباشر وصريح فى تعبيره عن إدراك شركاء «عبدالناصر» و«عبدالحكيم عامر» أنهم «أصحاب ملك» وورثة بيت، وأن لكل منهم حق في الحكم يوازى جهده في تحمل مسؤولية الثورة.. وكان إهدارهذا «الحق» هو أحد أسباب الحقد الذي لم ينف «السادات» عن نفسه مظنة الإحساس به تجاه صداقة «عبدالحكيم» و«عبدالناصر» والذي عبر نفسه في كثير من المظاهر الواضحة بعد اختفاء الرجلين، وانتهاء السلطة إليه، ومن المؤكد أنه كان يدرك أن خلافة «عبدالناصر» قد انتهت إليه بالمصادفة المحضة، وأنه كان مستحيلاً أن يحدث ذلك، ولا في الأحلام لولا تلك النهاية الفاجعة التي انتهت إليها الصداقة بين «عبدالحكيم عامر» و«عبدالناصر» ولولا درسها المؤلم الذي ظل يحز في قلب «عبدالناصر» حتى مات!

ولا أحد يعرف حتى الآن وعلى وجه التحديد مدى الصدق والكذب فى الطبعات المتعددة التي كتبها «السادات» لذكرياته على امتداد سنوات الثورة، فهو يغيرويبدل في الوقائع وفي ابطالها تبعاً للصراع السياسى وقت نشر هذه الطبعة أو تلك من ذكرياته الكثيرة المكتوبة والمذاعة.. وفي ضوء هذا يبدو جو الشكوك والريبة والحقد الذي جمع بين رجال يوليو، على صفحات «البحث عن الذات» متناقضاً تماماً مع ما كرره هو نفسه قبل ذلك كثيراً فى ذكرياته التى نشرها قبل أن يكون رئيساً، من تأكيد أن ثورة يوليو هي «ثورة الصداقة الوفية المخلصة»، وأن العلاقة التي جمعت بين رجال يوليو هي في الأساس «علاقة إنسانية عميقة»، فهي ثورة قامت على «الصداقة» أو قام بها مجموعة من الأصدقاء لم يكن أساس تجمعهم هو السياسة أو الحزبية، بل شيء أهم - فى نظرهم - وأبقى هو الصداقة الإنسانية الجارفة.

والسيرة الرسمية لتأليف تنظيم «الضباط الأحرار» لا تنفي هذا بل تؤكده وهذه السيرة تقول إن «عبدالناصر» قد ألف هذا التنظيم في أواخر عام 1949 من بقايا حلقات سياسية كثيرة انتشرت بين ضباط الجيش المصري خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، والسنوات التي تلتها، وكانت معظم تلك الحلقات على صلة قوية بالحركة الوطنية الفوارة بين صفوف الشعب المصري بأحزابها وتياراتهاالمختلفة، فكان من بينها حلقات تتعاطف مع «حزب الوفد» وأخرى مع أحزاب الأقليات السياسية ومع القصر الملكي، وكانت هناك - على الجانب الآخر- حلقات أخرى تتعاطف مع القوى السياسية الصاعدة كـ«الإخوان المسلمين» و«الشيوعيين» و«مصر الفتاة».

لكن «عبدالناصر» مؤسس التنظيم وأكثر أعضائه وعياً كان قد توصل إلى قناعة بأن الجيش مؤسسة «قومية»، وأن قيام التنظيم داخله يعمل لحساب حزب واحد من الأحزاب المصرية أمر لا يجوز، لأنه يفتح الباب لصدام مع أنصار الأحزاب الأخرى، ويخل بالانضباط العسكري، ولذلك فصل «عبدالمنعم عبدالرءوف» قبل أشهر قليلة من 23 يوليو 1952 من عضوية اللجنة التأسيسية لـ«الضباطالأحرار» لأنه طرح على زملائه قضية ضم التنظيم إلى «الإخوان المسلمين» ليكون جناحاً عسكرياً لهم.

بل وأعلن «خالد محيى الدين» بمجرد انتصار الثورة في 23 يوليو تنحيه عن عضوية اللجنة القيادية للثورة رغم الدور البارز الذي قام به فى ليلة الثورة لأنه -كما قال «السادات» عام 1954 - يؤمن بمبادئ معينة ويخشى أن يختلف مع زملائه الذين ضغطوا عليه ليبقى.

ومع أن قيادة التنظيم - وقواعده - كانت تضم ضباطاً من «الإخوان» ومن غيرهم، إلا أن القاعدة التي التزم بها الجميع هي تقديم الولاء للتنظيم على الولاء لأى حزب أو هيئة.. وفي كتابه «فلسفة الثورة» أشار «عبدالناصر» إلى أن الجيش كان هو الهيئة الوحيدة المؤهلة لكي تقوم بما قامت به في 23 يوليو عام1952 إذ كان المؤسسة المصرية الوحيدة التي لا تمزقها الحزبية، والتي يجمع بين أفرادها - كما قال - شعور مشترك وعلاقات حميمة.

وهذه العلاقات الحميمة تبدأ بالزمالة فى الكلية الحربية، أو في وحدات الجيش وتتحول مع الإقامة المستمرة فى المعسكرات النائية عن العمران، إلى صداقة شخصية كانت هي أساس التجنيد فى التنظيم، حتى إننا لا نجد من بين أعضاء«الضباط الأحرار» ضابطاً بحرياً واحداً، ولا نجد من بين ضباط الطيران إلا خمسة فقط بينهم ثلاثة فى اللجنة القيادية، والسبب هو أن الظروف لم تسمح بتجمع بين ضباط هذين السلاحين وبقية ضباط أسلحة الجيش البرية كزمالة دفعة في كلية.. أو إقامة في معسكر واحد!

وهذه الصداقة العميقة كانت نسيج التنظيم الذي ربط بين أعضائه، وحافظ على أمنه وأمانه، ضد الاختراقات البوليسية، فلم يتسلل أي من هؤلاء الأصدقاء «خائن» واحد، يشي بالضباط الذين كانوا يعدون العدة لقلب النظام القديم.

وهي الأساس الذي استند إليه ذلك الدستور شبه الأخلاقي الذي انتهوا إليه حين نجحت حركتهم وتشاركوا في السلطة، فقد اتفقوا على أن يتنحى الذى يختلف منهم مع الأغلبية، وأن يلزم داره، فلا يثير المشاكل أمام بقية زملائه، ولا يشن صراعاً ضدهم، وأن يتصرف كما يليق بالأصدقاء القدماء، فيظل وفياً للصداقة، راعياً للذمام، وفي المقابل يلتزم هؤلاء الذين لا يزالون في السلطة بالدستور الأخلاقي نفسه، فلا يستخدمون أدواتها من الفضح إلى المطاردة إلى الاعتقال ضد الأصدقاء القدماء.