الجمعة 25 يوليو 2014 / 01:37

حكمة اليوم العربيّ: لكلّ همّه



لم يُظهر العالمان العربيّ والإسلاميّ التضامن الذي كان يرجوه البعض مع قطاع غزّة. والحال أنّ تظاهرات العواصم الغربيّة تنديداً بالعدوان الإسرائيليّ كانت أكبر وأكثر كثيراً ممّا شهدته المدن العربيّة والإسلاميّة.

مع هذا، وبعيداً عن لغتي التشهير بالآخر ولعن الذات، يجدر التوقّف عند دلالات هذه الحقيقة التي شهدناها على نحو ساطع.

لكنْ قبل ذلك، لا بأس باستدراك مفيد وهو أنّ ضآلة التضامن الحاليّة إنّما جاءت تتويجاً لسياق مديد نسبيّاً: ففي 1982 مثلاً، حينما غزت إسرائيل لبنان، لم تقم تظاهرة واحدة جدّيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ. ذاك أنّ الاجتياح الإسرائيليّ يومها جاء على أثر حرب أهليّة سبقتها بسبع سنوات ودشّنت دخول منطقتنا عصر الحروب الأهليّة التي نعاين اليوم لحظة تتويجها المأساويّ.

بلغة أخرى، يعيش العرب والمسلمون راهناً درجة من التفتّت تُعدم كلّ ما هو مشترك فعلاً أو توهّماً. وفي مناخ كهذا، يغدو لكلّ بلد، بل لكلّ جماعة في بلد، همٌّ لا يتّصل بالهمّ الذي تعيشه جماعة أخرى ولو في البلد نفسه.

فالأقانيم الثلاثة التي سادت الوعي السياسيّ العربيّ لثلاثة أرباع القرن، وكانت مصدر استلهام التضامن ومصدر الطلب عليه، أي الإسلام والعروبة وفلسطين، تعاني كلّها انشقاقات عميقة في داخلها وفي الأوساط التي تعتنقها أو تقول بها.

فالإسلام اليوم سنّيّ وشيعيّ، لكنّه أيضاً إسلام إخوانيّ وإسلام مناهض للإخوان، وإسلام مؤيّد للحركات التكفيريّة المتطرّفة مقابل إسلام مناهض لها.

أمّا العروبة فباتت أضعف هذه الأقانيم الثلاثة، فلم يعد هناك ما يذكّر بها، في صياغة رسميّة وحكوميّة، إلاّ جامعة الدول العربيّة. حتّى نظام كالنظام السوريّ يزعم أنّ الوحدة العربيّة علّة وجوده، بات أشدّ اعتماداً على مزاعم "مكافحة الإرهاب" أو "الدفاع عن الأقلّيّات" ممّا على زعمه العروبيّ.

وفلسطين ليست أفضل حالاً. فهي أيضاً مشطورة بين سلطة رام الله وسلطة قطاع غزّة، وبين الفصائل على اختلاف طروحاتها وتباين تحالفاتها الإقليميّة. ويمتدّ هذا الانقسام إلى فلسطينيّي الشتات المنقسمين حول مسائل البلدان التي يعيشون فيها، على ما يدلّ اختلافهم حول الثورة والنظام السوريين.
ولا نضيف جديداً حين نقول إنّ مناطق العالم العربيّ (دع عنك العالم الإسلاميّ الأوسع) تعيش من الهواجس ما يصعب ربط واحده بالآخر. فأهل الخليج يواجهون، قبل كلّ شيء آخر، تحدّي النفوذ الإيرانيّ واحتمالاته التوسّعيّة، خصوصاً إذا ما استُنبتت لهذا النفوذ أنياب نوويّة. أمّا المشرقيّون الذين يعيشون تفتّت العراق وسوريّا، فمعنيّون، أوّلاً، بمصير هذين البلدين وما يترتّب على مأساتهما من تحوّلات سكّانيّة وديموغرافيّة هائلة الضخامة، فضلاً عن الأسئلة المحيطة بمستقبل الأردن ولبنان.

وإذ تنشغل مصر بعهدها الجديد وفرصه أو انسداداته، يتواصل الحريق الليبيّ الذي يهدّد بأن يبتلع كلّ شيء في طريقه. وأمّا منطقة المغرب، حيث لم يُحلّ النزاع الجزائريّ – المغربيّ حتّى اليوم، فتطرح عليها المستجدّات التونسيّة والليبيّة أسئلة أمنيّة وأخرى قابلة للتحوير الأمنيّ الذي تسكنه أهداف سلطويّة بحتة. وفي ما "بين المحيط والخليج"، يعيش اليمن هاجس الحوثيّين المحيطين بصنعاء، واحتمال الانشطار إلى شمال وجنوب، بينما يحاول السودان، بطرق مختلفة، التكيّف مع الأوضاع الجديدة الناشئة عن انفصال الجنوب.

وهذا حتّى لا نضيف حالات متفرّقة، كانشغال الأكراد بهمّهم الطاغي في العراق وسوريّا، وبطريقة تدبّر أمورهم في ظلّ انهيار هذين البلدين، أو انشغال المسيحيّين بما تبقّى من وجود لهم في هذه المنطقة التي تُجليهم عنها.

ووسط وضع كهذا، يبدو الذهاب بعيداً في التضامن مع غزّة، أي التضامن الذي يتجاوز الأخلاقيّ والإنسانيّ، ترفاً لا يملكه أحد. فحتّى حزب الله اللبنانيّ، الذي يزعم أنّ مقاتلة إسرائيل علّة وجوده، لم يشارك في الحرب الدائرة في القطاع الفلسطينيّ.

وما يفوق هذا أنّ الضفّة الغربيّة نفسها لم تبادر إلى إعلان حدادها وإضرابها التجاريّ إلاّ بعد دعوة الرئيس محمود عبّاس لذلك إثر مقتلة الشجاعيّة. ذاك أنّ لكلّ همّه اليوم، وعن تركيبة بالغة التفتّت كهذه، يصعب التعويل على مواقف موحّدة ومتماسكة ولو ذهبت الأقوال والخطب في اتّجاه آخر.