الأربعاء 30 يوليو 2014 / 20:27

خرافة من "التمسكن" إلى "التمكن"



يعني "التمكين"، بالنسبة لجماعة الإخوان نهاية لمرحلة "الصبر" أو "التمسكن" بما ينطوي عليه من تحايل وخداع، والوصول إلى العتبة التي تقع الدولة برمتها في قبضتهم، فيصادرون كل ما فيها لحساب فكرتهم، رغم أنها لم تعد صالحة لإدارة دولة عصرية. ولو كان هذا "التمكين" هو "مشروع وطني" متماسك وواضح المعالم وقائم على توظيف كل الطاقة الكامنة للدولة وجميع الكفاءات في شتى التخصصات دون النظر إلى الاتجاه السياسي أو الإطار الأيديولوجي ما كانت هناك مشكلة، لكنه مجرد حلم عابر لتنظيم يصر على إدارة الدولة بطريقة سرية، ويوظف كل إمكانياتها لخدمة فصيل واحد.

وقد برهنت التجربة المصرية على أن مشروع "التمكين الإخواني" يحمل في ذاته بذور فشله للأسباب التالية:

1 ـ ثبت أن الإخوان ليس لهم رصيد من الكفاءة، وأن كل ما صدروه للرأي العام طيلة العقود الماضية، وعقب انتهاء الموجة الأولى من الثورة مباشرة من أن لديهم فريقا جاهزا لإدارة الدولة، مجرد أوهام، أو دعاية سياسية استهدفت اصطياد الناخبين في عمليات الاقتراع المتتالية، لم تقم على شيء من الواقع، وليس لها رصيد من الحق والحقيقة. وتبين فيما بعد أن أغلب أعضاء "النخبة السياسية الإخوانية" من الأطباء، الذين هجر بعضهم الطب قليلاً أو وضعوه في مرتبة ثانية من الاهتمام وانخرطوا في خدمة الجماعة وتنظيمها، ووظفوا عياداتهم ومستوصفات الإخوان في تكوين رصيد جماهيري نفعهم في الانتخابات البرلمانية المتعاقبة التي خاضوها، لكن ليس معنى هذا أن هؤلاء بوسعهم أن يكونوا "رجال دولة" وأن يحوزوا الكفاءة التي تمكنهم من إدارة السياسات في مستواها العلوي.

2 ـ لا يوجد لدى الإخوان "مشروع قومي" بالمعنى العلمي، له قوام وملامح، ويمكن أن يجد طريقه إلى التطبيق العملي بسهولة، وتكون ثماره مضمونة. فما يعرضه الإخوان، حتى الآن، مجرد كلام بلاغي إنشائي يقوم على "الينبغيات" والشعارات العامة الفضفاضة، ويعتقد أن الانتصار في المعارك اللفظية يعني التقدم إلى الأمام في الواقع، وأن الاعتقاد أو التوهم في "طهر المسلك" أو "صدق النوايا" أو التذرع بأن الحصول على الأغلبية في الانتخابات يعني في حد ذاته تحصيل النجاح، ويعني الثقة المستديمة من قبل الناس في امتلاك الإخوان القدرة على تقديم حلول لمشكلات الواقع، وليست مجرد وضع الجماعة في موضع اختبار، وعليها أن تثبت للشعب ما إذا كان بوسعها إدارة الدولة أو لاً.

3 ـ هذه الرؤية الإخوانية الساعية إلى "التمكين" غير قابلة لشحذ الطاقات الوطنية وتوظيفها في شراكة تامة أو مشروع جامع، لأنها من المنبت هي مسلك فصيل واحد، تدور حول تصوراته وأفكاره هو، والتي بينها وبين تصورات وأفكار المشروع الوطني المصري هوة واسعة، أو اختلاف بين. فالأغلبية الكاسحة من المصريين لا يعنيهم أن يتمكن الإخوان من اتخاذ بلدنا محطة انطلاق نحو تحقيق حلمهم، أو بمعنى أدق وهمهم، بــ "أستاذية العالم"، بينما يعيش جل الناس في فقر مدقع، ولا يبدو أمامهم أي أمل في تغير أحوالهم التعيسة.

كما أن القوى السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والثقافية، والتنظيمات والروابط الوسيطة وقادة الكتل الجماهيرية الغفيرة من الفلاحين والعمال، أو الأفكار السائدة في هذه الأوساط، تشعر بدرجة متعاظمة أن مسار التمكين يجري في كل الأحوال على حساب المصلحة الوطنية، أو يتناقض مع مشروع الثورة المصرية أو أهدافها، ومن ثم فإن التصدي له ضرورة، وتحديه واجب، وإسقاطه هدف حقيقي من أجل استكمال الثورة أو إعادتها إلى مسارها الأصلي الذي انحرفت عنه بفعل أفكار وسلوكيات الإخوان الغارقة في الأنانية المفرطة.

4 ـ رؤية أشبه بمخططات التنظيمات السرية أو العصابات، صعب تسويقها في ثقة ووضوح لدى الشعب. فوثيقة التمكين الحديثة، كما سبقت الإشارة، يغلب عليها "الطابع الأمني" وتحتاج إلى طرق خفية عن أجهزة السلطة كي تتقدم إلى الأمام، ورغم وصول الإخوان إلى الحكم فإنهم لا يدركون هذا بشكل كامل، وتسيطر عليهم هواجس ووساوس قهرية تصور لهم أن الكل يتآمر عليهم، وأن تحقيق "التمكين" يتطلب الكتمان، ولذا يستمرون في السرية.

5 ـ التمكين رؤية قديمة واكبت نشأة جماعة الإخوان، لكنها لم تتطور مع الزمن، ولم تراع تغير الظروف وتبدل السياقات. فهذه الفكرة جاءت في ركاب الرغبة في استعادة "الخلافة" التي أطلق عليها مصطفى كمال أتاتورك رصاصة الرحمة عام 1924، ووقتها كان الشعب المصري متعاطف مع "الإمبراطورية العثمانية" في وجه الاستعمار البريطاني، رغم أنها كانت قد ضعفت وتهالكت ولم تعد قادرة على حماية الولايات التابعة لها. لكن الأمر تبدل الآن، فلا المصريون يجعلون قضيتهم هي العودة إلى أي شكل إمبراطوري للمسلمين، إنما فقط تعاون وتنسيق بين الدول الإسلامية لاسيما في المجالات الاقتصادية والثقافية، لكن الإخوان لم يتقدموا خطوات فارقة ومؤثرة تحول "التمكين" هذا إلى "مشروع للوطن" وليس مؤامرة عليه، سواء بقصد أو من دون قصد حال الإخلاص لفكرة لم تعد قابلة للتطبيق وتضييع وقت مصر وطاقتها في الجري وراء الأوهام، واعتبار أن تحصيل الإخوان للسلطة ليس فرصة لخدمة الوطن وتقديم نموذج مغاير بإضفاء طابع أخلاقي على الحكم إنما خطوة على طريق تمكين الإخوان من "أستاذية العالم".

6 ـــ لا توجد نظرية متماسكة أو إطار فكري قوي لمسار "التمكين" هذا، والاحتجاج بأنه نابع من "مرجعية إسلامية" غير مقنع، فالإسلام ليس حكرا على الإخوان، والرؤى والاجتهادات الفقهية فيه متعددة، وهو حجة على أصحابه مثلما هو حجة لهم. علاوة على أن الادعاء بأن التمكين هو مشروع الإسلام، يفقد هذا المسار المرونة المطلوبة للتفاعل مع الأفكار والأفراد والقوى المختلفة، لأنه يزعم الطهر والصواب التام ويدعي أصحابه أنهم "ملاك الحقيقة المطلقة".

7 ـ فقد الحديث عن التمكين بريقه تباعا، بإخفاق سلطة الإخوان في حل المشكلات المعقدة التي يعاني منها المجتمع، وتهاوت مصداقيته مع تراجع الثقة في القائمين عليه، سواء في خطابهم الذي كان مشبعا بالأكاذيب، أو في ممارستهم التي سقطت في أحابيل الأنانية والأثرة، ولم تتسق مع الخطاب الذي صدروه إلى الشعب في دعاية سياسية فجة سبقت الانتخابات والاستفتاءات المتتابعة.

8 ـ لا يعني سقوط خرافة التمكين أن أصحابه سيكونون بلا دور سياسي أو اجتماعي أو فكري أو حتى فقهي في المستقبل، لكنهم قد يتعلمون من هذه التجربة المريرة، ويعدلون الخطاب والممارسة، ويطرحون أنفسهم في إطار التعددية السياسية والفكرية في المجتمع بتواضع ظاهر، وبعيداً عن التهويل والأوهام.