الأربعاء 30 يوليو 2014 / 23:37

بلد المليون رئيس




1. بيضة النهضة
------------
فشل حزب حركة النهضة (الإخوان المسلمون في تونس) في تمرير (حبّة الرئيس التوافقيّ) وذلك بعدما قلّب المجتمع المدني والسياسي (حبةَ النهضة) وفحَصها احتراماَ لموقع هذه الحركة التي خرجت من الحكومة، ولم تخرج من الحكم (العبارة لراشد الغنوشي الزعيم الإخواني ).

لقد أرادت الحركة أن تثبت أنّها الطبيبة الحكيمة والمالكة الحصرية لحبة الشفاء، والطريف أنها تدرك سلفًا أن هذه (الحبة) مرفوضة وملفوظه من مجمل الجسم السياسي التونسي غير أنّه كان على النهضة أن تقول: أنا هنا، وصاحبة المبادرة .

ولو اخترتُ لمقترح النهضة تشبيهاً آخر غير الحبة لقلت: إنه يشبه البيْضة وقد رَخَمَت دجاجاتُ الأحزاب السياسية عليها، وأشبعتْها بحرارة النقاش، وبعد طول انتظار، لم يفقس الحوار عن صَوْصٍ حيّ، وتبيّن للجميع (باستثناء النهضة) أنّهم كانوا يُدفِّؤون بيضة فاسدة.

2 . حمى الرئاسة
---------------
بعد اكتشاف أو انكشاف بيضة النهضة، وبعد أن أقنع الرئيس التونسي المؤقت منصف المرزوقي التونسيّين والتونسيات، بلا استثناء، أن الرئاسة مهنة بلا أتعاب وذات ثواب كبير، وأنّ القصر الرئاسيّ يصلح أن يكون فرجة للشعب، ولذلك دعا إليه كثيراً من الأطفال، ربّما، ليقتل فيهم الحلم بالوصول إليه رجالاً وقد شاهدوه عندما كانوا صغاراً .

عاش التونسي حكاية القصر الجمهوري مثل خرافة، فهو لا يطأه حتى بالخيال، ولا يراه إلاّ في نشرة الأخبار، وهو ممنوع من التفكير فيه طيلة العهد الجمهوري بفعل الرئيس مدى الحياة، وبفعل العهد الذي تلاه وما عناه من غريب الأفعال لكلّ من تسوّل له نفسه بارتكاب إعلان نيّة الترشح للرئاسة أو حتى الهمس بها، في قالب مزاح عابر في زاوية من مقهي ريفيّ بعيد.


هذا الوضع كاد أن يخلق حالمين بعدد رؤوس الشعب، وانطلقت الحمّى السياسية نحو الانتخابات الرئاسية. لقد تهيأ لكلّ من يتوفّر على شرط الجنسية التونسية منذ الولادة، مع تزكيات نواب (صادقين أو يمكن شراء تزكياتهم) فضلاً على سنّ لا تقلّ عن الخامسة والثلاثين، أنّ بإمكانه أن يغدو رئيساً، وهذا فتح باب حلم خيالي:
- إذن، ثمة شعب من الرؤساء الجاهزين للدخول إلى قصر قرطاج، وهذا ما يجعل عدد الحالمين في حدود المليون .

- لِمَ لا، تونس تدخل كتاب "غينيس" للأرقام القياسية وهي تحمل لقب: بلد المليون رئيس .

3. همسات في اذن رئاسية
همسة أ:
- بالله عليك ترشح يا أخي، والله أنت رجل محبوب، وموهوب، والكلّ لا ينسى أفضالك وكريم أفعالك، ثم أنت رجل طيب، وصاحب خبرة في المجتمع، وفضلاَ عن كل هذا، القاضي النزيه، تعرضتَ للعقوبة والإقصاء ومنعوك من أرفع المناصب التي نالها أوضع القضاة، كما انك لم ترضخ لشتى الإغراءات... ترشح، وسنجمع لك الأصوات.

-همسة ب:
- يا أخي، لا تتراجعْ عن فكرة الترشح، فأنت صاحب رؤية ثاقبة في الاقتصاد، وقد استمعتُ إليك في التلفزيون وكنت مقنعاً، وحجّتك دامغة، وأفحمتَ خصمك، وألقمته حجراً، وأرى أنّه يمكن أن تقنع الأطراف الفاعلة في المجتمع السياسي بالمشاركة في النهوض باقتصاد الوطن .

-همسة ج :

- ترشّحي يا سيدتي، ستنتصرين كما انتصرت شعوب كثيرة قادتها نساء عظيمات، يا سيدتي، يا من تمثلين النساء ونصف المجتمع، بل أكثر من النصف، فحولك رجال نزهاء يقدرون فيك عقلك المدبّر، ثم أنت سيدة محترمة وزوجك الراحل الدكتور ناضل في سبيل الذين صمدوا تحت التعذيب في سجون الحكم البائد، وأنت أستاذة في الحقوق ودكتورة وابنك دكتور وابنتك دكتورة وأصهارك كلهم دكاترة، ما شاء الله، ولا شيء أنفع لهذا البلد غير ترشحك فأنتِ فريق من الأطباء النافعين لهذا البلد المريض.
همسة د :
- نرجوك، نترجاك يا شيخنا، أنت أديب لوذعي، وخطيب مصقع، ومدافع مقنع وصاحب صولات وجولات في المحافل الاجتماعية بعد الثورة، ثم أنت نظيف حزبياً، ولم تتّسِخْ سمعتك الناصعة بالتعامل مع أجهزة المخلوع، فضلاً عن هذا كله، فإن مداخلاتك في التلفزيون تدلّ على الاعتدال.
- همسة ه- :
- أنت رجل مهمّ نرشحك، ووجهك تلفزيوني شهير، وأغانيك يحبها الصغار قبل الكبار، وأنت قادر على تعبئة ملعب أولمبي إذا أقمت حفلة، فلماذا لا تترشح، وهناك مطربون أصدقاء من الخارج يمكنهم أن يساندوك. ولا تحك في الخطب كلمة واحدة، غنّ للناس، فقط، شعبك يحب الزهو والطرب .
همسة و:
- أنت سمسار جوال في هذا العالم (لنقُلْ من رجال الأعمال) وصاحب مقاولات، وتفهم في العولمة، ولك في البحر سفن سباحة مشحونة بالسلع المتنوعة، وتدير في البرّ شركات بها شعب من رجال ونساء لا حصر لهم، وقادر على جمع التفاح والسلاح في صفقة واحدة، ولك في الجوّ طائرات باسم شركتك، ولك في القمر الصناعي حصة بثّ لقنواتك الفضائية، وإذن أنت قادر على توحيد الفصائل المتنافرة في هذا الشعب.

-همسة ز:
تَرَشّحْ، رغم أنّ ماضيك السياسي صفر، أي لا شيء، ودخولك السجن كانت لأسباب أخلاقية، لكن يمكن اختراع سبب سياسي كالقول إنك مسجون سياسي لأنك رفضت أن تكون عميلاً لنظام فاسد، ولفّق لك تهمة بيع الخر خلسة، ولكن البسطاء يحبونك، اسمعني، إذا أحبّك شعبك نسي عيوبك وغفر ذنوبك، وإذا أغدقتَ على أسرة فقيرة شيئاً من المال، تحدّثت عنك الأسرة لشعب من الفقراء، فطمعوا فيك رئيساً، لا تنس أن الشعب لن يسألك عن مصدر المال، فالشعب خسيسٌ مدى الحياة .

همسة ح :
- أنت لاعب دوليّ سابق، ثم تقاعدت ثم حججْت، ثم صرت إماماً، يدك نظيفة وسيرتك عفيفة، وأسرتك شريفة، والفساد استشرى في البلاد والعباد، هيّا اقضِ عليه، ولا تتخاذلْ، ترشّحْ.

همسة ط:
- أنت الوحيد الذي يمكنه أن يقنع الشعب بأن الحياة الجميلة ممكنة، بالكلمات يمكن أن يحيا هذا الشعب الطيب، يكفي أن تكون لك جملة قوالب ومنظومة من الحكايات والطرائف (لا تكثر منها حتى لا يخلط الناس بين خطبة الحملة الانتخابية وبين عرض "وان مان شو") وفسّر لهم عويص المسائل بالأمثال الشعبية حتى يحب عموم الناس خطابك، وإذا أردت أن تنجح في الانتخابات الرئاسية، وإذا أردت أن تفهم سرّ أسرار اللعبة، فعليك أن تنسى أفكار النخبة، وتعاليق النخبة .- الخ الخ الخ.


4. همس خارج الصندوق

بمثل هذه الهمسات، يُسقى النرجس في مُهَجِ الناس الذين ينتابهم إحساس بكونهم مهمّين وعلى قدر من الخبرة في إدارة شؤون الدولة، وسياسة الناس ...
وهذه الهمسات تأتي من شفاه الناس الطيبين واللؤماء، وتلقى في أذان الناس الذين يستيقظ فيهم الطمع في الكرسي بما يحمله من وسواس خرافيّ قديم ..
لقد غدا الحلم شعبياً جداً ومتاحاً ومباحاً وبات الترشّح للرئاسة على مرمى تعليق في فيس بوك، أو تغريدة في تويتر، وأمّا مؤسسة الرئاسة فباتت قابلة لأن يسومها المفلس والثريُّ والقادرُ والعاجزُ وما بينهما وتختلط الأوراق في الآفاق إثر عاصفة النفاق في الأبواق ...
ولكن
لا تسألْ مترشحاً عن برنامجه الانتخابيّ، فالفوز بأصوات الشعب سرّ لا يكمن في البرنامج الانتخابيّ، ذلك أنّ السرّْ يكمن في الصندوق الذي هو علبة ولعبة ،
وما يوجد في الصندوق يكون خارج اللعبة التي تعلب محتوياتها خارج.. الوطن.