الجمعة 1 أغسطس 2014 / 01:00

كيف تنسج "مصيدة مغفلين"



عبر مقدمة طويلة أسهب " أحمد منصور " في التعريف بضيفته البريطانية "البارونة جيني تونج" عضو مجلس اللوردات البريطاني التي استضافها في برنامجه على قناة الجزيرة القطرية "بلا حدود" تحت عنوان "مناقشة السياسات والمواقف الأوروبية من العدوان على غزة"، رغم أن معظم تلك المقدمة الإنشائية انصب، بما يشبه وصفا لمعجزة، على زيارة البارونة لقطاع غزة، قبل سنوات، وتضامنها مع "حماس" ودعوتها إلى إطلاق سراح المعتقلين من نواب حماس لدى الاحتلال، التقديم ومساحات المديح فاجأ الضيفة واربكها، كما أشارت تعابير وجهها وهي تتلقى الترجمة الفورية لديباجة منصور.

اختزل منصور، من خلال المقدمة، موقف البارونة ودعمها ونشاطها السياسي بدعم "حماس/ الإخوان المسلمين "، وهو ما حاول تكريسه عبر الحوار ومن خلال أسئلة مواربة تبحث عن إجابات محددة، أو في الحد الأدنى قابلة للتفسير وحمالة أوجه، وهو ما تورطت فيه السيدة البريطانية بشكل جزئي وعلى نحو غير مقصود في بعض مناطق الحوار.

هذا البرنامج تحديداً ومقدمه يصلحان بشكل نموذجي كوسيلة لتوضيح كيفية تسويق تزوير وعي المشاهد الأعزل، أو كيف تنسج "مصيدة مغفلين".

بقليل من التأمل ولمشاهد محايد وعلى غير دراية بـ "الجزيرة" و"أحمد منصور" و"الإخوان" سيلتبس الأمر تماماً بين عنوان الحلقة ومضمونها، وستبدو مصر هي التي تحاصر غزة، والجيش المصري هو الذي يواصل منذ ثماني سنوات حصار وقصف الفلسطينيين في غزة وعبد الفتاح السيسي هو العدو وليس نتانياهو وحكومته.

وقبل كل شيء أن مأساة غزة وفلسطين تكمن بالضبط في أن الإخوان المسلمين خسروا السلطة في مصر، ذلك هو مصدر العدوان على غزة الذي يمكن أن تقود اليه أسئلة منصور.

كان منصور يكرر بإخلاص غريب وبعينين معذبتين "شراكة " مصر في "العدوان"، ويواصل بدأب جر السيدة بعيداً عن العنوان الذي بدا مثل كمين للسيدة البريطانية التي جاءت لتتحدث عن "السياسات الأوروبية" فوجدت نفسها محاصرة ومطالبة بالولاء لحلف قطر/ الاخوان.

في السياق ومثل قنبلة موقوتة سأل منصور ضيفته المذهولة عن "رأيها " في "اجتماع وزير خارجية الإمارات المتحدة مع وزير خارجية إسرائيل ليبرمان في باريس، واتفاقهما على إبادة حماس بتمويل من دولة الإمارات"، كان هذا كافياً لتسترد الضيفة توازنها، كرر سؤاله الذي وزعه بدهاء على قسمين الأول بدأ بمصدره الوحيد "ما تناقلته الصحف الإسرائيلية"، والثاني الاتكاء على المصدر بصفته مرجعاً لا يمكن دحضه. كرر سؤاله ثلاث مرات متتالية والسيدة تواصل صمتها، اتهم خلالها فني الصوت ثم المترجم ثم الضيفة نفسها التي حاولت تفادي السؤال والذهاب نحو موضوع آخر. السيدة التي استعادت توازنها، الآن، اضطرت، أمام الإصرار الغريب لمنصور على الحصول على أي شيء/ مقابل مدائحه التي أغرق فيها المرأة كرشوة مبكرة ومحسوبة، لاستعادة برودها الانجليزي واختارت أن تكون فجة ومباشرة في مواجهة الكمين/ السؤال، قالت إنها لم تسمع بهذا الأمر، ولم تقرأ عنه وبالتالي لن تعلق عليه.

الحقيقة التي نكاد نعرفها جميعاً وربما الضيفة أيضاً، أن مصدر الإشاعة هو الغرفة المجاورة لمكتب منصور في الدوحة، ومن هناك جرى تمريرها للمصدر الإسرائيلي لتعود إلى استوديو منصور بصفتها خبراً ستعلق عليه ضيفة بريطانية، في الطريق سيقفز بعض محللي مواقع التواصل الاجتماعي من الجماعة نفسها وأتباعها من بواقي القوميين واليسار التائه والمحبطين على الإشاعة التي أصبحت خبراً الآن، تماماً كغسيل الأموال، غسيل أخبار.

هكذا جرت شيطنة " ياسر عرفات " الذي يصادف ميلاده هذه الأيام على فضائية الجزيرة، قبل القفز على جثته ونبش حقيبة ملابسه الفقيرة ثم قبره للحصول على إشاعات جديدة يتم تخزينها لرميها في الوقت المناسب على أشخاص آخرين، وبنفس الطريقة جرت شيطنة جمال عبد الناصر واختصار تاريخ مصر في عهده بمواجهته للإخوان، وهواري بومدين وبورقيبه وبقية رموز الخمسينيات والستينيات، بهذه الطريقة جرى تشويه التاريخ العربي الحديث والانتقام من رموزه والعبث بوعي عشرات الملايين من الأجيال العربية اليائسة واستثمار إحباطها وإعدادها لعصر الإخوان المسلمين، على الجانب الآخر كانت مختبرات الإخوان وحلفائهم منهمكة بصناعة داعش والنصرة...وبقية هذه العجائب بحيث لا يبقى أمام العربي في المنطقة إلا ممر وحيد هو " الجماعة ".

لم ينجح الأمر، لم تكن الحسابات دقيقة، في مصر انهارت الشبكة أمام الشعب المصري، كانت سنة واحدة من حكم مرسي وحماقاته، واستئثار الجماعة بكل شيء قادرة على اقناع الغالبية الساحقة من المصريين بالكارثة التي يعدونها لمصر والمنطقة، ولم يتمكنوا من تحطيم مؤسسة القضاء أو اختراق المؤسسة العسكرية الراسخة التي استطاعت قراءة المنطقة والمصير الذي ينتظر مصر أولا وفلسطين المستندة منذ فجر التاريخ بقوة على الكتف المصري.

حماقات مرسي اعترف بها أحمد منصور نفسه في أحد مقالاته، وهنا اقتباسات من المقالة التي حملت عنوان " طوفان الكراهية ضد الإخوان المسلمين" الذي صب فيه غضبه على مرسي تاركاً لنفسه بطولة غير متحققة، لأنهم هناك في "الرئاسة" لم يأخذوا بنصائحه التي كان يرسلها لهم عبر هاتفه الجوال.

..."وقد كان اختيار مرسي للمنصب خطأ كبيراً في حد ذاته لأن الرجل لا يملك المقومات الرئيسية لرجل الدولة، (....)

من ثم وجد مرسي نفسه في مكان لم يعد نفسه له ولم يفكر فيه، فخدع بمظاهر السلطة ولم يتمكن من أدواتها ويدخل إلى جوهرها، فحكم الدولة بعقلية رجل الحزب والجماعة، وجمع حوله فريقا لا يتمتع بكفاءة إدارة الدولة ولم يكن لدى أي منهم خبرة (.... )

أشياء عديدة لعبت الدور الكبير في صناعة طوفان الكراهية للإخوان لاسيما من الذين انتخبوا الإخوان أو أيدوهم أو تعاطفوا معهم بعد الثورة، الأول هو إعلام الفلول الذى لم يكن ينظر إلا إلى أخطاء الإخوان وسوءاتهم مع عجز الإخوان عن الترويج لإنجازاتهم ودخولهم في عداوة مع الإعلاميين، الثاني هو أداء الرئاسة المزرى وإصرار الرئيس على أن يقدم لأعداء الثورة والفلول والإعلام الأدوات التي يحاربونه بها مثل خطاباته العاطفية والمرتجلة الخالية من المحتوى والمضمون والرؤية والخيال وإصراره على رئيس الحكومة وعلى النائب العام والإعلان الدستوري وأشياء أخرى كثيرة انتقدناها في حينها، والسياسة لا تعرف العناد حيث بقى مرسى يعاند إلى آخر لحظة خلال طوفان 30 يونيو بل قبله وتحديداً بعد بيان القوات المسلحة الأول حاولت التحدث مع بعض من أعرفهم حول الرئيس لم يرد على أحد، أرسلت لهم كلهم رسائل على الموبايل وقلت لهم: يجب أن يمتص الرئيس الطوفان لا مجال للعناد عليه أن يخرج وينفس الغضب الشعبي ويمتصه ويصدر قرارات ولا يطرح مبادرات ويستجيب للاستفتاء وليحدد موعده بعد إنجاز الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة."

ما يحدث الآن في غزة هو عدوان بربري غير مسبوق على أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني محشورين في ذلك الشريط الضيق على ساحل المتوسط، لن أدخل في تبريرات العدوان فإسرائيل ليست بحاجة لمبرر عندما يتعلق الأمر بقتل الفلسطينيين، ولكن ما صنعه الفلسطينيون في مختلف مناطق تواجدهم هو الالتفاف حول المقاومة بما فيها حماس، أجلوا في ظاهرة نبيلة، كل شيء وعيهم بمحاولة الإخوان المسلمين استعادة بعض من حضورهم وغسيل الوحل الذي غطى صورتهم ومحاولتهم المكشوفة لاستثمار دم غزة في محاورهم وصراعاتهم، أجلوا الخلافات والمحاسبة والانتقاد إلى ما بعد العدوان، ألقوا من وراء ظهورهم انقلاب الإخوان في غزة ومحاولة زج الشعب الفلسطيني في مواجهة مع مصر بقيادة السيسي والانقسام والتحكم برقاب أهل غزة وأرزاقهم لسنوات طويلة، ارتفعوا عن ترهات قيادة حماس ومحاولة احتكارها للمواجهة، واحتضنوا المقاومة بكل أطيافها حماس والجهاد وفتح والجبهتين الديمقراطية والشعبية والتنظيمات العسكرية، بينما يواصل مختبر الإخوان المسلمين في الجزيرة وغيرها نسج دسائسه ودفع فلسطين نحو محاور استنفذ دورها ولم يعد ممكنا تعويمها وإعادة إنتاجها من جديد.
ما لم يعرفه " الإخوان" في غزة، ما لا يرغبون بمعرفته، أن الشعب هو الذي ينتصر الآن على العدو وعلى الانقسام.