السبت 1 أكتوبر 2016 / 18:45

بيريز...جدلية النجاح والفشل

كان إشكالياً في حياته، وبدا إشكالياً أكثر في وفاته .. إنه شيمعون بيريز، الرجل الذي يجسد دولة إسرائيل منذ تأسيسها في منتصف القرن الماضي إلى ما هي عليه في النصف الأول من القرن الحالي.

هو من جيل المؤسسين للدولة، وصاحب الإنجازات النوعية فيها، ينسب له إقامة المشروع النووي الذي أنتج العديد من القنابل، وينسب إليه كذلك دوراً مميزاً في تأسيس القوة الجوية الإسرائيلية التي كانت وما تزال عماد الحروب العديدة التي لم تتوقف إسرائيل عن خوضها مع العرب.

كما أنه في مرحلة التأسيس كان ظلاً لـ بن غوريون، وأحد مصممي الاستيطان الذي هو أحد أحجار الأساس في المشروع الإسرائيلي .

لم يبق منصب في إسرائيل لم يتولاه شيمعون بيريز، ومع كل هذه المؤهلات التي لم تجتمع لاسرائيلي غيره، إلا أنه كان سيء الحظ في معظم الانتخابات التي خاضها، فقد كان يفشل على أهون الأسباب وكان منافسوه يعتمدون على حظه السيء، فهزمه المتحرش الجنسي "قصاب" في معركة رئاسة دولة إسرائيل قبل سنوات طويلة، وهزمه نتنياهو رغم تسلح بيريز بتراث رابين ومكانته المميزة لدى الرأي العام الإسرائيلي، وحين صار رئيساً للدولة العبرية تكرس كشخصية تراثية معنوية رمزية، لا دور لها في صناعة السياسة الإسرائيلية، وحين كان يتطوع كوسيط ثانوي تحت عنوان إنقاذ السلام الفلسطيني الإسرائيلي، كان ينجح في البدايات ويخفق في منتصف الطريق.

ساعدته الأقدار بأن كان صاحب أطول عمر من بين أعضاء الطبقة السياسية العليا، فكان معاصراً لكل الأحداث المفصلية في مسيرة الدولة العبرية، إلا أن كل ما تقدم وهو نوعي وكثير، لم يوازن الفشل الأكبر في حياته السياسية، وهو مشروع السلام مع الفلسطينيين، فهو عراب أوسلو ومروض اسحق رابين لقبولها والتعامل معها، وأثمرت جهوده التي تعاون معه فيها عباس وعرفات، عن انبثاق مشروع السلام الجديد الذي أنتجته أوسلو ودشنته واشنطن، ورعاه العالم بأسره.

تسرّع العالم في منحه ثلث جائزة نوبل للسلام مع شريكيه رابين وعرفات، فكانت الجائزة للنجاح في إعداد المسرح دون التأكد من نجاح المسرحية، ومثلما كان النجاح مدوياً يوم المصافحة التاريخية بين رابين وعرفات في حديقة البيت الأبيض، جاء الفشل أكثر دوياً حين لم تعد القضية الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل اوسلو، بل حدث ما هو أسوأ من ذلك، حيث سجنت القضية وأصحابها داخل قضبان الاعتبارات الدولية، ومعظم أقفالها والمفاتيح آلت إلى اليمين الإسرائيلي الذي تمكن من قتل قطبي أوسلو رابين وعرفات، وعزل شيمعون بيريز عن أي دور فعَال في هذا المشروع.

لما مات بيريز جسدياً وكان قد مات سياسياً قبل ذلك، جاء العالم كله لتشييعه، بعض الزعماء جاء نكاية ببنيامين نتانياهو، والبعض الآخر جاء بدافع صداقة طويلة الأمد مع بيريز، وبعض آخر جاء لاعتبارات بروتوكولية، إلا أن الجميع اتحد في سبب وحيد لتكريمه، وهو أنه كان أفضل من نتانياهو، على الأقل في أمر السلام مع الفلسطينيين .

كان احتشاد زعماء العالم في الجنازة ينطوي على رسالة واحدة ظهرت في خطب التأبين قبل مواراته الثرى، مفادها لا مفر أمام دولة اسرائيل من أن تحقق سلاماً مع الفلسطينيين، وأن كل ما تتمتع به اسرائيل من مرتكزات قوة لن تغني عن عن السلام مع الفلسطينيين أولاً، بل لا مستقبل لدولة اسرائيل إلا إذا أنجزت هذا السلام، إذا كان الحظ السيء أفرز ظاهرة فشل هذا القطب الاسرائيلي في معظم الانتخابات التي خاضها، إلا أن ما أفشله في عملية السلام مع الفلسطينيين لم يكن الحظ، وإنما كان اسرائيل بمن فيها شيمعون بيريز.