الأحد 31 أغسطس 2014 / 17:12

عندما يصادر الورثة مؤلفات أسلافهم

 

منذ حوالى عشر سنوات تلقيت اتصالاً هاتفياً من د. رمسيس عوض قال لي خلاله إنه قرأ في الصحف أن "الهيئة العامة للكتاب" سوف تصدر طبعة جديدة من كتاب "أوراق العمر" الذى كان آخر ما صدر من كتب شقيقه المفكر الراحل د. لويس عوض ضمن منشورات "مكتبة الأسرة" وطلب إلى أن أبلغ "صاحبي" رئيس هيئة الكتاب د. سمير سرحان بأنه صاحب حقوق نشر كل مؤلفات لويس عوض، وأن الهيئة لم تحصل على موافقته على نشر الكتاب ولم تتعاقد معه على ذلك، وأنها لو نشرت الكتاب دون موافقته فسوف يقاضيها ليوقف الطبع والتوزيع ويحصل على التعويض وقد ينتهى الأمر بحبس د. سمير سرحان نفسه.

وفى محاولة لترطيب الأجواء الملبدة بين الطرفين بسبب مشاكل متراكمة قلت له إنني لا أشك في أن سمير سرحان سوف يرحب باستقباله لتوقيع عقد نشر الكتاب، وذكرني بأن حقوق ملكية الكتب تنتقل إلى الورثة بعد وفاة مؤلفها لمدة خمسين عاماً بحسب نص القانون تتحول بعدها إلى ملكية عامة وأنه لا يوافق من حيث المبدأ على نشر هذا الكتاب بالذات من مؤلفات شقيقه الراحل، ولن يسكت إزاء محاولة سمير سرحان وضعه أمام الأمر الواقع.

ولم يكن سبب معارضة رمسيس عوض في إعادة نشر مذكرات شقيقه الراحل خافياً على أحد، إذ ما كادت الطبعة الأولى والوحيدة من الكتاب تصدر قبل أسابيع من وفاة لويس عوض، حتى أثارت مناقشات حادة على صفحات الصحف لأنه تطرق في ثناياها إلى أمور تختص بسلوك أسرته وبعلاقته بأشقائه، كان من بينها إشارته إلى أنه كان يشعر دائماً بان شقيقه الأصغر "رمسيس" يغار من شهرته ومن المكانة التي احتلها في الفضاء العام دونه، وهو ما استنكره وكذبه د. رمسيس، مفسراً ذلك بأن شقيقه كتب "أوراق العمر" في مرحلة كان يعانى فيها سرطاناً في المخ أثر على حسن تقديره للأمور ودفعه إلى تشويه تاريخ اسرته، وهو السبب الذي دفعه بعد انتقال حقوق ملكية مؤلفات أخيه إليه إلى رفض كل عرض لإعادة نشر الكتاب.

وكان ذلك ما دفعني إلى طرق الحديد وهو ساخن، بمناقشة السبب الحقيقي الذى يدفع د. رمسيس إلى الاعتراض على إعادة طبع المذكرات، مشيراً إلى أن ما يتعلق بما يسميه تشويه تاريخ أسرته، وبه هو شخصياً منها فقرات محدودة يمكن له أن يرد عليه ويصححه في مقدمة يكتبها للكتاب، أو أن يتحفظ عليه في هامش يكتبه للصفحات التي وردت فيها وباستطاعته أن يشترط على الناشر حذف تلك الفقرات عند إعادة الطبع، لتحل محلها سطور بيضاء، مع الإشارة إلى أنه قد تم حذفها، قائلاً إن مصادرة مذكرات لويس عوض بالحيلولة دون إعادة طبعها بسبب هذه الفقرات القليلة ليست استخداماً منصفاً لحقوق الملكية الفكرية والأدبية التي آلت اليه بالميراث، ولأنه يحرم القراء من قراءة أحد أهم النصوص التي كتبها لويس عوض والتي تشكل أحد أهم الوثائق الأساسية لفهم دوره ودور الجيل الذى ينتمى إليه في الحياة الثقافية والسياسية لمصر.

وفشلت كل جهودي لإقناع د.رمسيس بالمنطق الذى سقته إذ أصر على موقفه من المذكرات وأبى أن يتزحزح عنه طالباً أن ابلغ رسالته بالنص إلى سمير سرحان وهو ما حدث .. لتكون النتيجة رفع اسم "أوراق العمر" من إصدارات مكتبة الأسرة لذلك العام.

ولم تكن هذه أول مرة أتحاور فيها مع د.رمسيس عوض حول أمور تتعلق بموقفه من تراث أخيه، إذ حدث أن نشرت إحدى المجلات الثقافية نصاً لمسرحية من فصل واحد من بواكير أعمال لويس عوض بعنوان "إيزيس" ضمن ملف نشرته عنه بمناسبة ذكرى رحيله وغضب د. رمسيس لأن المجلة نشرت المسرحية دون أن تستأذنه ودون أن تتفق معه على حقوق النشر وقال لي إنه سيقاضيها دفاعاً عن حقوقه، لكنى استطعت أن اقنعه بأن المجلة كانت حسنة النية وأن حقوق النشر في المجلات الثقافية وخاصة المصرية منها ضئيلة، وأنه لو طالب بها، فسوف يحصل عليها بسهولة وأن المهم هو أن المجلة قد احتفت بذكرى لويس عوض، وحرصت على ألا يغيب اسمه عن الساحة الثقافية بعد سنوات من رحيله.

وذكرني ذلك مع اختلاف السياق - بالموقف الذى اتخذه "محمد البحر" - ابن الموسيقار الراحل سيد درويش من تراث أبيه، إذ ظل لسنوات متصلة يطارد كل من يحاول غناء ألحان أبيه أو يعيد توزيع موسيقاه ويتعنت في تقدير حقوقه المادية عن ذلك، حتى اختفى تراث سيد درويش أو كاد لولا أن مدة الخمسين عاما التي ينص القانون على أن تظل حقوق الملكية الأدبية والفنية بين يدى ورثة صاحبها انتهت عام 1973، فأصبح تراث سيد درويش ملكية عامة فسمعه الناس وعشقوه واستلهمه الفنانون وتنبه الجميع إلى الدور الرائد الذى لعبه في تجديد الموسيقى العربية.

وحدث مرة أن نشرت جريدة "القاهرة" - التي أرأس تحريرها- إعلاناً بأنها ستهدى قراءها كتاب "تربية سلامة موسى" الذى يروى فيه سيرته الذاتية مجاناً، وما كاد الإعلان ينشر حتى اتصل بي نجله رؤوف سلامة موسى متسائلاً عن الأمر، فقلت له إننا نشترك مع ستّ صحف في ستة أقطار عربية في مشروع ثقافي لتوزيع مجموعة من الكتب القيمة على قرائها مجاناً، بواقع كتاب كل شهر وأن كل الأطراف تتنازل عن حقوقها ليمكن أن يصل الكتاب إلى القارئ مجاناً، فيتنازل المؤلف أو ورثته عن حقوق التأليف وتتحمل الصحف ثمن الورق والطباعة، فأكد لي أنه صاحب حقوق نشر كتب أبيه عبر دار نشر كان قد أسسها لهذا الغرض، وأن الكتاب المذكور ضمن الكتب التي نشر عدة طبعات منها، وأن طرح نسخة مجانية منه يضر بفرص توزيع ما طبعه منه، ورفض منطقي بأن الكتب التي توزع مجاناً تصل إلى قارئ فقير لا يملك ثمن شراء الطبعات الفاخرة وربما كان القارئ الذى يستهدفه سلامة موسى بكتاباته وأن ذلك يوسع من دائرة الذين يقرءون كتب أبيه ولكنه أصر على موقفه فأوقفنا طبع الكتاب، وفى العام التالي 2008 انتهت مدة السنوات الخمسين على وفاة سلامة موسى، وسقط حق الورثة وتحول تراث سلامة موسى إلى ملكية عامة!

وفى بداية سبعينات القرن الماضي أقامت أسرة المفكر الراحل علي عبدالرازق دعوى قضائية ضد الكاتب الإسلامي المعروف محمد عمارة لأنه كان قد نشر النص الكامل لكتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذى طبع لأول مرة عام 1926 وذهب فيه إلى أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الحكم في الإسلام، ولكنها اجتهاد بشرى لجأ إليه الصحابة بعد وفاة الرسول وأثار نشره - آنذاك - ضجة واسعة أسفرت عن فصل مؤلفه من منصبه كقاض شرعي وإقالة وزير العدل الذى رفض تنفيذ الحكم، واستندت الأسرة إلى أن "عمارة" لم يتعاقد معها قبل النشر وكان معروفاً أن علي عبد الرازق كان قد رفض إعادة طبع الكتاب مرة أخرى بسبب ما تعرض له بسببه، وبعد سنوات من ذلك انتهت المدة التي يحق للورثة فيها احتكار ملكية الكتاب وطبع عشرات المرات كان من بينها طبعة قدم لها أحد الأجيال الجديدة من أفراد الأسرة الذى أشاد بالدور التنويري الذى لعبه الكتاب في تاريخ الفكر العربي.

ما يدعوني إلى تذكر ذلك أن المعركة تجددت في الأسابيع الأخيرة بعد أن طالب الناقد والكاتب نبيل فرج بتعديل قانون حقوق الملكية الفكرية، بحيث يقتصر حق الورثة على الحقوق المادية، بينما يظل الحق الأدبي في نشر الكتاب مكفولاً للدولة حتى لا يسيء ورثة المفكرين استغلال حقوق الملكية في حجب ما كتبه المورث أو مصادرة أفكاره، خاصة أن القانون نفسه يعتبرها من الممتلكات العامة بدليل أنه يقصر حق الورثة في استغلالها على خمسين سنة فقط، تتحول بعدها إلى ملكية عامة .

وفى هذا السياق قال لي نبيل فرج ونحن نتبادل تذكر الشواهد التي تدل على إساءة استخدام بعض الورثة لحق ملكية المصنفات الأدبية والفنية والفكرية الذى انتقل إليهم، أنه كان منذ سنوات بعد دراسة عن أحد رواد الفكر المصري المعاصر الراحلين وأنه زار أسرته لكى يبحث عما قد يكون قد تركه من أوراق أو ما يتذكرونه عن مسيرة حياته ففوجئ بأبناء الراحل الكريم الذين يعملون في مجال الاستثمار لا يعرفون شيئاً عنه ولا يعنيهم ما تركه من كتب ولا يهمهم أن يعاد نشرها، بل إنهم دهشوا لأن هناك من يجهد نفسه للبحث عن آثاره وعن تاريخه، توهماً منه أنه كان مفكراً كبيراً في حين أنه كان في رأيهم شخصاً عادياً لم يكمل تعليمه الجامعي.

واقتراح نبيل فرج بتعديل قانون حقوق الملكية الأدبية والفكرية، بحيث يقتصر حق الورثة على الحقوق المادية وينتقل حق النشر وإعادة النشر إلى الدولة يستحق الاحتشاد حوله، وهو ما سبق للدولة نفسها أن قامت به عام 1963، عندما صدر قرار جمهوري يبيح لدار الوثائق القومية أن تنتزع ملكية المذكرات السياسية ذات القيمة التاريخية للمنفعة العامة ومقابل تعويض مناسب تدفعه للورثة، وتطبيقاً لهذا القرار حصلت دار الوثائق المصرية على مذكرات سعد زغلول التي كانت مودعة تحت الحراسة القضائية بإحدى خزائن بنك مصر انتظاراً للحكم في عدد من القضايا أقامها الورثة الذين تنازعوا حول صاحب الحق منهم في الحصول عليها بعد وفاة زوجته صفية زغلول عام 1947، كما حصلت على مذكرات وأوراق مهمة كانت لدى ورثة هذه الشخصيات!

فهل آن الأوان لمصادرة حق ورثة الشخصيات التاريخية في مصادرة التاريخ الذى شارك أسلافهم في صنعه؟ أظن ذلك.