الجمعة 19 سبتمبر 2014 / 13:25

هرطقات الداعية المبعد



لم تستطع الجمل العاطفية المنمقة والمدروسة التي أطلقها الداعية الإخواني وجدي غنيم وهو يودع الدوحة في طريقه إلى ذراعي أردوغان المفتوحتين على آخرهما، تلك المساحة المفتوحة بين ذراعي أردوغان التي أطلق عليها وجدي غنيم باستسلام ممثل تراجيدي "أرض الله الواسعة"، لم تستطع تصريحات أردوغان نفسه وهو يهبط درجات القصر الأميري في الدوحة الأسبوع الماضي، مرحباً بقادة الإخوان المسلمين المغادرين، بناء على طلب الدولة، لم تستطع أن تخفي المرارة التي أحاطت بفكرة "الترحيل"، رغم محاولات اردوغان التطوعية لتعبيد الفكرة، ومنحها بعداً تحالفياً مع موسيقى إسلامية في الخلفية، بحيث بدا وكأن المجموعة المرحلة قد أنهت للتو وضع حقائبها قبل أن تصعد إلى جانبه في الطائرة الرئاسية العائدة إلى "الأستانة" الجديدة، أو كأن الرحلة نفسها، رحلة أردوغان والإخوان، مجرد رحلة على الخطوط الداخلية.

في نفس السياق، سياق تبادل الخدمات بين الجماعة وحزب اردوغان، يمكن السير في أثر "غنيم" وتتبع "دعوته" و"دروسه" في رواية التاريخ التركي المعاصر، وقراءته المتكئة على أن "الخلافة " تم القضاء عليها بسبب رفضها لوعد بلفور، وتحويلها إلى شهيدة في سبيل القدس، وبنفس السذاجة المحمولة على شواهد دينية وآيات وأحاديث وتفسير، يواصل "غنيم" صياغة تاريخ خاص لتركيا عندما يمنح "مصطفى أتاتورك" أصولاً يهودية من الدونما" وينقله من بداية القرن ليضعه في مواجهة مع "غزة " في أغسطس (آب) من 2014، قبل أن يتحدث عن التوازن الذي أحدثه إنشاء جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928، بعد عام من إنشاء الوكالة الصهيونية وأربعة أعوام من سقوط الخلافة بما يشي بأنها، الجماعة، تسلمت الراية من السلطان عبد الحميد ونقلتها إلى مصر. (المحاضرة/ قناة رابعة 10/8/ 2014 ).

هكذا تم منح تاريخ خاص لتحالف الإخوان/ اردوغان، وترتيبه وإعادته إلى أول القرن وربطه بتحرير فلسطين، هي نفس طريقة الإخوان، لا تتبدل، في تزوير التاريخ وتشويش الوعي بتحليلات وحكايات ساذجة تستمد سلطتها من خلال القاموس والمثال الديني، وبحيث يمنح هذا التحالف بعداً تاريخياً وزمناً خاصاً ويربط كل هذا بفلسطين.

هذه هي البضاعة إذاً:
الإسلام وحصره بالسنة بما يسمح بمؤازرة داعش
التقاط أقرب خليفة للوقت الراهن فيما يشبه مبايعة لأردوغان
فلسطين كقضية مقدسة واختصارها بحماس، وكل هذا على رافعة دينية طائفية.

هذا الإقحام للنموذج التركي في اقتراح إعادة ترتيب المنطقة وتحديد مصائر شعوبها ومكوناتها، يبدو مستعاراً من المرجعية العثمانية، وليس من المنجز التركي المعاصر، وهو الذي يلهب مخيلة الإخوان المسلمين ويمنحهم خديعة الاعتدال، ويتحول عبر الأداء الديماغوجي للزعيم التركي مصدر الهام للإسلام السياسي في تجلياته العربية، رغم انها في جوهرها، بعيداً عن الخديعة إعادة إنتاج للنظرة العثمانية المتعالية نحو شعوب المنطقة، وببساطة أشد هي عودة إلى سياسة التتريك بصيغ معاصرة.

غنيم ، أحد أهم قادة الإخوان المسلمين وأكثرهم إثارة للجدل لم يوضح وجهته، رغم أن خياراته محدودة ويمكن التنبؤ بها، ولكنه وفي استعراض لم يخل من نفاق لم يفارق الرجل، أشار بنبرة ضحية متفانية في إنكارها للذات، إلى أنه يغادر "قطر الحبيبية" طوعاً لرفع الحرج أمام الضغوط التي تتعرض لها "الحبيبة".

ليس واضحاً بعد إلى أي مدى يمكن أن تتواصل عملية ترحيل قيادات الإخوان من قطر، ولكن الإخراج الدرامي الذي ظهرت به عملية الوداع، على سماجتها، والعناق البلاغي الذي طغى على المشهد، مشهد الأذرع المودعة والأذرع المستقبلة، يوحي بأن ثمة تنقلات وحركة بالاتجاهين ستحدث في الطريق بين الدوحة واسطنبول، وأن الأمر لا يعدو تغييرا في أرقام الغرف أو محلات الإقامة داخل محور واحد، لن يذهب أحد إلى أبعد من ذلك ولن يتغير شيء، حتى "ماليزيا" تبدو ضاحية صالحة للسكن ضمن هذا الإخراج، لن تتوقف محاولات إثارة الفوضى واستهداف النسيج الاجتماعي في المنطقة ومحاولات القفز على السلطة، وسيتواصل الدعم وستصل الأموال في وقتها.

هذا ما حاول أن يذكرنا به "وجدي غنيم" نفسه من خلال بيان مصور أصدره ووزعه على الشبكة ومنحه صفة "بيان"، مؤكداً على المفردة دون أن يوضح ماذا إذا كان البيان صادراً عن الجماعة أم أنه يخصه وحده، ترك كلمة "بيان" معلقة وقابلة للتأويل. البيان المذكور صدر في منتصف سبتمبر (أيلول) الحالي، بعد يوم واحد من مغادرته الدوحة إلى "منفاه الاختياري"، وهو أول تصريح يدلي به هذا الداعية بعد "تطوعه" لتخفيف الضغط عن مضيفيه في الدوحة، وجوهره رفض مطلق وإدانة واضحة لـ "الحلف الصليبي ضد الدولة الإسلامية"، متمنياً على "إخوتي في الدولة الإسلامية الذين أختلف معهم في بعض الأمور الالتزام بالكتاب والسنة" وداعياً بقوة إلى مؤازرتهم في مواجهة تحالف الصليبيين وأعوانهم دون أن يغفل "تكفير" القارتين الأوروبية والأمريكية دون استثناء.

وللحقيقة يثير توقيت "هجرة" غنيم ورفاقه وصدور هذا البيان الواضح، بعد أقل من ثلاثين ساعة على مغادرته مطار الدوحة، وتعمد أن لا يخرج ممهوراً بتوقيع الجماعة، وإن كان يشي بموافقتها عليه، تثير هذه الظروف وغيرها أسئلة كثيرة حول الحركة القادمة لتحالف اردوغان / الإخوان واصطفافات فروعهم المنتشرة في المنطقة من تونس إلى العراق وسوريا وغزة، وفردوسهم المفقود في مصر، بحيث يبدو أن موضوع "الإبعاد" نفسه لم يأت بسبب ضغوط دول المحيط، بقدر ما جاء ليخدم موقف الجماعة، وإعادة تموضعها على ضوء نشوء التحالف الدولي لضرب "داعش ".