السبت 20 سبتمبر 2014 / 19:39

الشيخوخة والحبّ والرئاسة



-1-

فتحت الانتخابات الرئاسية في تونس فمها ، فافترَّ ثغرُها عن رؤوس مختلفة الأحجام ، كهلة وشيخة ، وقد ظهرت منها عيون مشرئبة الى سدة الرئاسة ،بعد ان صار قصر قرطاج مفتوحا للذين تتوفر فيهم الشروط ، و كُسِرَ احتكارُ السوق الرئاسي ، وهذا يعود الى أمريْن اثنين :
-اولا : ضرورة ملء الفراغ الذي كان يسدّه الرئيس الوحيد تقريبا وهو الذي كان يترشح وحيدا او مع أشباح معارضة ، ويفوز بغياب المنافس .
- ثانيا : بؤس الأداء الرئاسي عند الرئيس العلمانيّ سابقا ، المؤقت المنصف المرزوقي الذي انتخبه الإخواني راشد الغنوشي ،فناضل المرزوقي حتى أقنع التونسيات والتونسيين بأن الرئاسة مهمة سهلة ومريحة ، وساحرة وساخرة ، ولا تتطلب موهبة في فنّ القيادة ، ولا خبرة سياسية، ولا قدرة ادارية ، فقد يسّر الرئيسُ المذكور المهمةَ على من سوف يجيء بعده ، وسهّل أمر الرئاسة ، حتّى لم يبقَ سوى إقناع الشعب بالخروج من البيت الى صندوق الاقتراع حتى يدخل الرئيس القادم الى القصر .

-2-

ان رئاسة دولة تحتاج الى حكمة سرية غيرة معلنة،وَ موهبة لا تدرّسها الجامعات ، وبعض المترشحين لا يملك خبرة سياسية ولا يعرف ما مفهوم الدولة ، ومعنى الرئاسة.
وبمناسبة كهذه، كان من الممكن مساءلة المترشحين عن المعنى من وراء ترشحهم للرئاسة.
لكن السؤال الذي أغرى الاعلام كي يتصدر موضوع الرئاسة ويطفٰوَ على باقي الأسئلة الاخرى ( مثل غياب المراة المترشحة او دخول اصحاب القنوات التلفزيونية الى سوق الرئاسة ) ، هو هذا :
- كيف الصحة يا من سنقول له : يا سيادة الرئيس ؟
لقد كان ترشح السيد الباجي قائد السبسي ( مواليد 1926 ) هو القادح لهذا السؤال الصحي ولكن غير القانوني ،وبات السؤال ينشد الفضيحة الإعلامية لا غير .وهو ذو وجهين : يمكن ان يكون وجيهاً كما يمكن ان يكون سفيهاً .

-3-

لقد سبق للمترشح الايطالي ساندرو برتيني( 1896- 1990) ، ان وصل الى القصر الرئاسي ( 1978-1985 )وعمره 82 سنة وغادره في سن 89، و اما دولة اسرائيل العنصرية فقد انتخبت شمعون بيريز ( مولود 1923 ) رئيساً لها من سنة 2007 الى 2014 ، وَ بالحساب فانه وصل الى الرئاسة في سن84 وتركها هذا العام وهو في سن 91 .
والسؤال هو : هل التونسيون أكثر فطنة من هذين الشعبيْن الذين انتخبا لمؤسسة الرئاسة رجليْن جاوزا الثمانين للرئاسة ؟ .
والسؤال ممكن :هل الانتخابات الرئاسية ذات صلة بالألعاب الأولمبية حتى يطرح موضوع اللياقة البدنية نفسه بهذه الحدة من قبل بعض الأطراف ؟ ام إن ترشح الباجي مخيف ومربك لمنافسيه ، فالأصوات التي تعالت ضده كانت تعلن أو تتنبأ أو تستشرف أو تومىء أو تلمّح أو تشير الى موته القريب ، وكان هذا البعض يوحي بأنّ "الباجي " يموت عشقا في سبيل الرئاسة ، وموته العاشق قد أبعد عنه الموت الرئاسي، او هو رجل ميت مندسّ في انتخابات الرئاسة او مجرد ميت نسي أن يدفن نفسه ، او انه أعلن ترشحه بدل ان يعلن موته ! .

-4-

ليس كل من رأى الباجي معجباً بأفكاره وتمشيه السياسي ، ولكن كل غرمائه السياسيين يحسدونه على مشيته منتصبَ القامة متناسياً نعشَه ( مع الاعتذار لسميح القاسم ومرسال خليفة ) وهو يتمتع بذاكرة حادة تلفت الأنظار، حتى ان احد الصحفيين سأله في لقاء تلفزيوني عن لقائه السريع بباراك أوباما ذات مؤتمر في أوروبا :
- ماهو الحديث الذي دار بينك وبين الرئيس أوباما ؟
- سألني عن النظام الغذائي الذي اتبعه ؟
- وماذا كان جوابك ؟
فأجابه الباجي ممازحا او جادًّا :
- ادْعني الى أمريكا ، سأبوح لك بسرّ النظام .. الغذائي .

-5-

عُشاق الموت يرَوْنَ انه حاضر في كل لحظة ،وهم مُحِقّون في هذا. اذا تذكره الناسٌ فانه سيتذكرهم ، واذا نسيه ناسّ آخرون ، فانه لن يغضب منهم أو عليهم، ولن يبادل نسيانَهم له بنسيانِهِ لهم ، فالموت لا يسمع الأغاني ، واذا سمع الموت ام كلثوم وهي تغني ( وان مرّ يوم من غير لقياك / ما ينحسبشي من عمري ) فهو لا يتأثّر لان حسابه دقيق ، و مواقيته لا تتقدم ولا تتأخر ، وله مواعيد غيبية تٰسمّى الأجل ، والمثل يقول : ان العمر لا يقتل ،وليس يقتل غيرُ الأجل .

-6-

كان الكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز متطيّرا من الموت لانه فاز بجائزة نوبل في سن مبكرة (53 عاما) وسبب التطيّر هو ان من فاز بالجائزة وهو شاب مات باكرًا ، وكان الرحيل المبكر ل "ارنست همنجواي " و " البير كامي "ماثلا أمامه ، ولكن عاش ماركيز بعد هذه الجائزة 34 عاما !
هذا الروائي كتب ( الحب في زمن الكوليرا ) وهي تحكي قصة شاب عمره 19 سنة احب فتاة عمرها 17 سنة، إلاّ ان أسرة الفتاة ارتحلت الى مكان بعيد ، ورفض والدها ان يزوجها لهذا الشاب الذي لا يملك من العشق الا قلبه النابض ولا رأسمال له غير رسائل شاب برّح به الهوى ، وصار الفتى العاشقٰ الولهانٰ يتابع اخبار هذه الحبيبة البعيدة والمتزوجة من رجل مترفّه وهو طبيب ، وتقدم الفتى في العمر حتى اكتهل ثم شاخ وكان محافظا على حلمه الاول الذي هو : التزوج بفتاة أحلامه ، فلم يكن يتمنى غير شيء واحد هو : موت الزوج وترمّل حبيبته ، ولكن هذه الأمنية السعيدة كانت بعيدة ، ولم تتحقق له الا بعد مضيّ 51 سنة و 9 أشهر و4 ايام ،وكانت نهاية رواية ماركيز سعيدة حيث التقى العاشق السبعيني بمعشوقته السبعينية ، وتزوجا بعد اكثر من نصف قرن من الحرمان .
لقد أراد ماركيز ان يرد الاعتبار للشيوخ ويمجّد الحياة التي لا تعترف الا بمُريديها على حد تعبير" ابي القاسم الشابي " وَ ب" الحبّ الأقوى من الموت" على حد عبارة الكاتب الفرنسي " غي دي موبسان" ،وأراد ماركيز ان يقول : ان الحياةَ كريمةٌ وتمنح فرصة الحب للجميع دون استثناء الشيوخ اذا صحّتْ عزيمتهم الغرامية .
 
-7- 

- من يملك الحق في منح الحياة ، او منع الحياة ولا توجد حبوب لمنع الحب؟
-لقد احب شاعر ألمانيا الكبير" غوتة " وهو في سن 74 , الفتاة ايلريك ذات ال19سنة ،ولكنها كانت تحبه" مثل ابيها " وظلت عزباء الى اخر حياتها الطويلة وعرفتْ بعد رحيل الشاعر الكبير انه تزوّجها إبداعيا وأنجبَ منها ،رغما عنها، قصيدته الجميلة " مرثية مارينباد " حيث بثّ شكواه ولوعة الحبّ مع رغبة متكبّرة ومكبوتة في البكاء ، ووصف القلب الذي تساكنت فيه الجنّةُ والجحيم ...
- لا اتصوّر ان الشيوخ مطرودون من الترشح للرئاسة.
- هل فكّر الذين يدعون السبسي الى الاستقالة ، في مطالبة الناخبين الشيوخ والعجائز المواطنين والعجائز بان يقدموا شهادات طبية تثبت سلامتهم البدنية او العقلية قبل الإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع ؟
- في السياسة كنز من الانتهازية لا يفنى .

-8-

- يقول مثل افريقي شهير : موت شيخ يعني احتراق مكتبة.
- ولكن ما هو غير مفهوم هو ان البعض يريد احراق المكتبة ويرميَ الشيخ في المحرقة.!
وما هذا الا حديث الإعدام التابع لغريزة الموت وهو لا يمتّ ، باي صلة، الى ثقافة الحياة .