الثلاثاء 23 سبتمبر 2014 / 15:00

إسكتلندا تهمنا أيضاً..!!



لم يثر موضوع الاستفتاء على انفصال إسكتلندا اهتماماً من نوع خاص في العالم العربي، ولم يتجاوز الأمر ترجمة ما نشرته وسائل الإعلام الغربية من أخبار وتحليلات، وإن تكن الأخيرة بدرجة أقل. وهذا، في جانب منه، مفهوم في ظل ما يشهده العالم العربي من حرائق تهدد بتدميره، إلى حد يجعله لاهياً عمّا سواه.

ومع ذلك، في عدم التفكير في أمر كهذا ما يدل على فتور وقصور في الفكر السياسي العربي، ما كل ما ينطوي عليه من دلالات ومضاعفات. ففي حادثة من نوع رغبة نصف الإسكتلنديين، تقريباً، في الانفصال عن المملكة المتحدة، ما يتصل بمفهوم القومية، والدولة القومية الحديثة (الدولة/الأمة) في علوم السياسة بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص.

يميّز منظرو القومية، والدولة القومية الحديثة بين نوعين من القوميات أسفرت كلتاهما عن نموذجين مختلفين للدولة/الأمة بالمعنى الحديث للكلمة. القومية الرومانسية (Romantic nationalism)، التي اعتمدت اللغة، والماضي التاريخي، والثقافي، "المشترك" في تعريف الأمة، وحدود إقليمها الجغرافي.

وفي هذا السياق تندرج القوميات السلافية، والجرمانية، والعربية، وغيرها في النموذج الأوّل، بينما تندرج القومية الإقليمية (territorial nationalism) للدولة/الأمة، التي تجعل من الحدود السياسية للدولة، حدوداً لهويتها القومية، وغالباً ما تمثل الولايات المتحدة مثالها الأبرز، وتندرج بريطانيا العظمى في المثال نفسه.

لم يكن تاريخ القوميات الرومانسية، في سياق السعي لإنشاء الدولة القومية، بلا مشاكل أو عقبات. فقد انخرطت في مشروع طويل الأمد لإخضاع الأقليات القومية، واللغوية، والإثنية، وفي حالات بعينها أنكرت عليها الحق في المواطنة، أو حتى حاولت القضاء عليها. وقد أسهم عالم الاجتماع الأميركي مايكل مان بقراءة مستفيضة لمشاكل القوميات الرومانسية في كتاب صدر قبل سنوات قليلة بعنوان "الجانب المظلم للديمقراطية"، حرّضت عليه بشكل خاص حروب القوميات في البلقان، وما كان في أراضي الدولة السوفياتية قبل انهيارها.

المهم، أن الفرضية الرئيسة، والسائدة، حتى وقت قريب، كان مفادها أن النظام الديمقراطي هو الوحيد الكفيل بإقناع أقليات قومية، أو لغوية، بالبقاء ضمن حدود الدولة القومية الحديثة، بينما يعزز النظام الشمولي رغبتها في الانفصال، ويُسهم في حال ضعفه في تفكك الدولة القومية نفسها. وهذا ما حدث بالفعل في البلقان، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي بعد انهيار الدولة السوفياتية.

ومع ذلك، يمكننا توظيف نموذجين للتدليل على حقيقة أن النظام الديمقراطي بقدر ما يتمكن من إقناع جماعات قومية مختلفة بالبقاء ضمن حدود الدولة القومية الحديثة، بقدر ما يكون، أيضاً، وسيلتها للانفصال، والاستقلال في دولة/أمة تخصها.

فبعد انهيار الكتلة الاشتراكية انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين هما تشيكيا وسلوفينيا بطريقة طوعية، دون حروب أهلية، بل بالتصويت على الانفصال. وأقرب الأمثلة، الآن، وصول حوالي نصف الإسكتلنديين إلى قناعة بضرورة الانفصال عن المملكة المتحدة. وعلى الرغم من حقيقة أن معارضي الانفصال فازوا بفارق ضئيل قبل أيام، إلا أن تكرار التصويت على أمر كهذا سيظل خياراً في قادم الأيام.

المدهش في الأمر أن إسكتلندا أصبحت جزءاً من المملكة المتحدة قبل ثلاثة قرون، وأن المملكة المتحدة ملكية دستورية، وهي من أعرق الديمقراطيات في العالم. والمهم، في السياق نفسه، أن بعض الولايات الأميركية قبل تجد نفسها أمام خيار الانفصال، على الرغم من ديمقراطية النظام الأميركي.

بمعنى آخر، ثمة ما يستدعي إعادة النظر في العلاقة بين النظام الديمقراطي، وبنية الدولة القومية الحديثة. هذا لا يعني، بالضرورة، الاعتراف بأولوية وجدارة النظام الشمولي، في "الحفاظ" على إقليم الدولة/الأمة. فقد يكون القمع، وما يتاخم حد التطهير العرقي، والحرمان من حقوق المواطنة، هو الضريبة، وغالباً ما تكون الحروب الأهلية الباردة، والساخنة، هي النتيجة الحتمية.

وربما يعيد التصويت على الانفصال في إسكتلندا التذكير بحقيقة أن الحق في تقرير المصير ليس حكراً على العالم الثالث، والمستعمرات السابقة، بل ينطبق على جميع بني البشر، حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية، وحقيقة أن هذا الحق يقوم على فكرتين أساسيتين، على القدر نفسه من الأهمية، حق الاتحاد أو الانفصال.

وعلى ضوء هذا كله، ثمة ما يستدعي إعادة النظر في أيديولوجيا القومية العربية، التي فكّر منظروها بأن اللغة، والماضي التاريخي، والثقافي، "المشترك" أشياء تكفي لتحقيق وحدة ودمج ما نشأ من دول عربية في القرن العشرين، دون التفكير في الخصوصيات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وما يمكن أن تخلقه من عوائق حقيقية في هذا الصدد. والأهم، أن هذه العوائق لم تكن بفعل مؤامرات خارجية، أو تلكؤ نخب حاكمة، بل كانت تمثل الواقع الذي ينبغي الاعتراف بأولويته على المثال الأيديولوجي.

وعلى ضوء هذا كله، أيضاً، ثمة ما يبرر إعادة النظر في العلاقة بالأقليات القومية، والدينية، في نموذج الدولة/الأمة، كما تجلى في التجارب الدولانية لما نشأ من دول عربية في القرن العشرين. فالأنظمة الشمولية لم تنجح في إنشاء هوية جامعة تستمد مقوماتها من الحدود الجغرافية لحدود ولايتها السياسية. وهذا ما يتجلى في دول عربية مختلفة تشتعل النيران في سفينتها الغارقة.

والأدهى أن البعض لم ينجح حتى في صهر مكوّنات طائفية وجهوية في هوية جامعة. ومقابل هذا الفشل التاريخي، وعلى حطام دول قائمة ينهض الإسلام السياسي فيطرح نموذجاً شمولياً جديداً لا يتأتى دون تدمير ما تجاهلته أيديولوجيا القومية العربية من خصوصيات وحسب، بل ودون تدمير فكرة الدولة القومية نفسها. وبهذا تكون الشمولية قد أنجبت ما هو أسوأ منها، وما يعد بمزيد من الويل والثبور وعظائم الأمور. ولعل فيه ما يبرر المزيد من الكلام عن إسكتلندا، لأنها تهمنا أيضاً.