السبت 27 سبتمبر 2014 / 18:50

الرُّؤاس


- 1 - 
رأس هو فعل ثلاثي مهموز العين، وفي الفصحى أوزان طريفة مثل فُعال، ومن بين ما تدلّ عليه نوعٌ من المرض أو الداء، مثل: الزُكام والسُعال والذُهان والنُفاس والرُهاب، والكُساح ، كما تدل على الصوت، مثل نُواح وصُراخ ونُباح ( الكلا )، وخُوار (الأبقار)، ورُغاء(الجِمال)، ومُواءُ(القطط)، وثُغاء (الخرفان).

ومن فعل رأس الذي يبدو ألِفُهُ منتصب القامة وعلى رأسه همزة واضحة، وفي يمينه راء مقوسة مثل هلال، وفي يساره سينٌ، وهي حرف شمسيٌّ، ويشبه - وهو غير منقط - مفردةَ سنّ ، أو منجلاً مسنونَ القبضة... من هذا الفعل" رأس "، أمكن أخيرًا أنْ نؤلّف كلمة جديدة في الفصحى، هي : رُؤاس، على وزن فُعال (بضمّ الفاء)، وفي معنى المرض والداء، والصوت.

لا مناص من التأكيد على أنّ اللغة لم تتألف مفرداتها دفعة واحدة ، فهي كائن ينمو بنموّ الانسان صاحب اللسان ، وازدياد مفردات قاموس أية لغة لا ينبع من شهوة قومها، ولكن من حاجتهم الى التعبير والتواصل والإنتاج والاستهلاك ، كما أنّ الكلمات لا تموت إذا وُلِدتْ، ولكنها قد تصبح مهجورة، تنام في زوايا القواميس، او ناشطة إذا كان لها في حياة الناس ما يبرر الاستخدام.

- 2 -
 كان الفراغ الذي تركه رأس كبير تمت الإطاحة به، أو بصنمه، أو برمزيته، كبيراً جداً، وصار ضئيلاً جداً، وخرج الشعب للشوارع والميادين، ينادي بإسقاط الرئيس، وبين عشية وضحاها طار الرأس، أوْ طُيِّر(بضم الطاء)، أوْ رفعوه وركلته الأقدام، وصفعتْه الأيدي وشتمته الألسنة ، حتى صار الشعب بلا رأس ، فكثرت الذيول والبطون والأمعاء، والأفخاذ والمخالب والأنياب، وباقي الأعضاء، ولم يبقَ سوى ملء الفراغ الدستوري، والبحث عن الرئيس الموعود، والسيدة الأولى التي من المفروض أن تزور المرضى في المستشفيات، وتقدّم للأطفال المعاقين هدايا العيد، وفي مستشفى الوطن الكبير ولد المرضى بداء الرُّؤاس .

- 3 -
 الفراغ كبير من الناحية الكمّية والنوعية ، فالمواطن المتسيّس، الذي كان يخاف من نفسه الإمارة بالحلم بالرئاسة، هو في العادة القديمة زوج ذو أطفال ، و كان هذا المواطن ينام خارج فراش الزوجية ومبتعداً قدر المستطاع عن مرقد أطفاله، وذلك كله على سبيل الاحتياط، فهو يخاف أن يحلم بالرئاسة ، فتقوم زوجته أو أطفاله بالوشاية، به لأنه صرّح بهذا الإجرام في المنام.

توفّي هذا المواطن الآن، ثم بُعِث من جديد، وتابت أسرته عن الوشاية، وصار المجال مفتوحاً، وبإمكان مواطن بلدان الربيع العربي أن يترشّح للرئاسة ، فلا أحد أحسن من أحد، والناس سواسية كأسنان المشط ، والبلد مفتوح و يحتاج من يقوده، وما على الراغبين إلا أن يتقدموا، فلن يلاحقهم شرطي، ولن يدعوَهم مركز أمني للمساءلة والتحقيق، ولن يشيَ بهم صاحب مقهى، أو نادل في مطعم أو مخبر محترف، بل بالعكس، فإنهم سيجدون الترحيب الذي لم يحلموا به في المنام، وهكذا صار شعب كامل مريضاً بداء "الرُّؤاس ".

- 4 - 
انتشر الداء بين أفراد الشعب، الذين باتوا يحلمون بما لم يجرؤوا على الحلم به في السابق، ولكن لا بد من "لابدّات"  للبدء:

لا بد من توفر شروط لدخول المعْمعةِ الرئاسية، ولابد من أصوات تزكي وتوقع وتمنح صوتها، ولا بد من أموال لجمع الأصوات، وهي متفاوتة الأسعار والأوزان والألوان ، فسعر صوت البرلماني مرتفع في سوق الرئاسة والتزكيات، وهو بالملايين، وسعر العاطلين في المقاهي، أو العامل في المزارع أو المعامل، أقل قيمة، فهو بالملاليم أو الدنانير القليلة.

- 5 - 
الشعب الذي يريد إسقاط الرئيس، يرغب في الترشح لمنصب الرئيس، الذي سيرأس شعباً يريد تغيير الرئيس.

- هل ترشحت للرئاسة؟

- نعم، نريد أن نخدم هذا الشعب المسكين، وأنت يا صديقي هل ترشحت؟

- أنا تركت ترشحي للرئاسة إلى آخر أجل، وفي اليوم الأخير، أخذني النوم، فلم أتمكن من اللحاق بتقديم ترشحي!

- 6 -
 هناك الكثير من مرضى الرُّؤاس، يذهبون في الخيال أكثر من شعراء المديح والافتعال، وينخرطون في عرض برنامجهم الرئاسي، المؤلف من عبارات التذلل والتزلّف والمبالغة، فيبنون "الجمهورية الديمقراطية الشعبية الوطنية الفاضلة"، التي: توزع الحلوى على الأطفال، وتخفض أسعار كبش العيد، وتجعل النقل البري مجاناً، وتوزع الأراضي على فقراء الفلاحين، وتبني دور العبادة، وتسمح بالتستر في شرب الخمر مع السياح، وتوصي بمرتب محترم للبطالين، و تمنح قروضاً للشبان والشابات، حتى يملكوا نصف دينهم، بعد عزوف العزاب عن الزواج وتكاثر العانسات، أما الصحّة فإن المستشفيات مجانية والدولة تتكفل بالرعاية الصحية، وتحافظ هذه الجمهورية على استقلال القرار الوطني في كنف التشاور والحوار، كما تولي المسالة الأمنية أهميّةً قصوى، بما يضمن حق الأحزاب في حرية التنافس النزيه والتعاون الشريف، من أجل رفع راية الوطن عالية خفّاقةً في منتدى الأمم.

هكذا يتحدث مرضى "الرُّؤاس " عن برنامج القضاء المبرم، الذي ينتظر مشكل البطالة والأمن والإرهاب والأسرة الكريمة، وهم ينشؤون الخطب دون تفطّن إلى منسوب الكذب الذي يلمع في شفاههم، ويتغنّون بمشاريع لا رأس مال لها، وهي شبيهةٌ بـ " شيكات " لغوية، ولكن الذي لا شكّ فيه هو أنّها بلا رصيد في بنك الواقع.

- 7 - 
الفوضى
في اللغة : قوم لا رأس لهم
ما أكثر المرضى بداء الرُّؤاس،
وما أقلّ الأطباء،
وما أكثر الأطباء المرضى...
فوضى