الإثنين 29 سبتمبر 2014 / 00:28

معجم الإخوان... والسيمفونية السابعة



الله يسامحك يا أميّ، ويا أبي، ويا مَدرستي ويا مُعلّميني، ويا قُرّائي. فلولاكم لخرج هذا المقال أكثر مِهنية. لكن تهذيبكم لي، وحبي لكم يجعلني غير قادرة على كل ما أريد قوله!

الله يسامحك أيها "التداعي الحرّ للأفكار" لأنك أفسدتَ عليّ لحظات غالية ممتعة بأن أقحمتَ عليها ما يُدنّسها.

الله يسامحك يا "بيتهوڤن" لأن عذوبة نغماتك الفائقة استدعت النقيضَ، فتداخلت في ذهني المُرهَق المُعذّب أضدادٌ لا تجتمع: الجمالُ والقبح، العذوبةُ والكَدَر، النقاءُ والدَّنَس، قمّة الذكاء البشريّ ومُنتهى الانحطاط الحوشيّ!

أجلسُ الآن في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، التي أُسمّيها "دولة الأوبرا"، أُنصِتُ إلى "أوركسترا القاهرة السيمفوني"، ينثر سكاكر النغم وزخّاتِ الموسيقى في فضاء المكان، فتهبطُ عصافيرُ الفردوس الأعلى تلتقط من حبوب الكونشيرتو ما تلتقط، وتذرو ما تذروه الذارياتُ ذرواً.

المايسترو العظيم أحمد الصعيدي وضع عصاه جانباً وقاد الأوركسترا بيديه مجردتين حتى تغدو أصابعُه العشرُ عِصيّاً عشرة تقطف النغمات من الڤيولين والكونترباس والكمنجات والتشيللو والساكس والتريانجل والتمباني، لتصنع هذا اللحن الفريد. السيمفونية السابعة لعظيم الزمان "لودڤيج بيتهوڤن". وكما قال جوتيه: "إنها من أكثر أعمال بيتهوڤن فرحاً"، ربما لأنه كتبها في فترة حبٍّ محتدم بينه وبين حسناء بادلته المشاعر.

مع الحركة الثالثة من السيمفونية، كانت ضرباتُ العصا الجسور على طبول التيمباني بدأت تضربُ على جدران قلبي فتمنحني القوة والرعونة، ثم تخزُ نغماتُ الڤيولين الناعمة أوردتي وشراييني بوخزاتِ النشوة فأقع في حالٍ من الخَدَر الساكن، تتلوها زخّاتٌ نغمية موقّعة كرذاذ الطِيب يضربُ وجهي بالفرح والبهجة مع نسمات الساكسفون. فكيف، في هذه اللحظة بالذات، تدخل ذاكرتي تلك الكلماتُ البذيئة التي لا يضمّها إلا معجم الإخوان المنحط؟!، مما سمعنا في مطار نيويورك حين استقبل الأشرارُ، أعداءُ مصرَ وأعداءُ الجمال والتحضر، أبناءَ مصرَ الإعلاميين الذين سافروا ليغطوا زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لإلقاء كلمته الخالدة أمام رؤساء العالم في الأمم المتحدة. من سمح للقبح أن يدخل من بوابة العذوبة؟!

ولأن أمي وأبي ومدرستي وأساتذتي، سامحهم الله جميعاً، علّموني أن ما يدنّس الفمَ هو ما يخرج منه وليس ما يدخله، فلن أستطيع أن أعيد على مسامعكم ما سمعته من ركاكات وضيعة لا تليقُ إلا بهم. بذاءات الإخوان وتطاولهم على مصرَ ورئيس مصر وأبناء مصر، تملأ محافل فيس بوك ويوتيوب لمن يريد أن يُلوّث أُذنَه بروثهم.

لكن حَيرتي تسألني: لماذا تذكرتُ هذه الكلمات البشعة الآن وأنا في غمرة نشوتي بموسيقى بيتهوفن وعيناي مخضبتان بأناقة العازفين في أثوابهم السوداء ينثرون العذوبة في فضاء المسرح الكبير؟! كيف يجتمعُ الجمالُ والقبحُ في ذهنٍ واحد في لحظة نشوة موسيقية فادحة العذوبة؟! إنه "التداعي الحرّ للأفكار"، سامحه الله، الذي جعل النقائض تتلاقى والخصوم تجتمع في عقل شاعرة ذهبت إلى دار الأوبرا كعادتها كل أسبوع، لكي تغسل روحَها من الأدران التي يصنعها الإرهاب وداعش وبوكو حرام وكل مَن يلوثون العالمَ بفظائعهم، وتُبرئ قلبها من السقم الذي يتراكم مع كل عملية إرهابية جديدة كل نهار.

يأخذني جلالُ الخيال وأتساءل: هل أُصيب عبقريُّ الكوكب لودڤيج بيتهوڤن بالصمم إثر سماعه كلمة بذيئة مما يضمُّ معجم الإخوان الركيك؟! ربما. ولم لا؟ فثمة بذيئون في كل عصر وفي كل مكان مما يصيبون العباقرةَ الأنقياءَ بالصمم حين لا تحتمل رهافتهم ثِقَل ما يسمعون من ثُغاء وخسّة.

قال بيتهوڤن إن "كلُّ البشر سيصبحون إخوةً بالموسيقى"، فهل في عبارته شكٌّ ونحن نرى ما نرى؟! لا أظن. عبارته صحيحة تماماً، لكن الأوغاد لا يسمعون الموسيقى!