الثلاثاء 30 سبتمبر 2014 / 20:01

عقد وعام على رحيل إدوارد سعيد



أدين في تعرفي إلى إدوارد سعيد ولقائي به في لندن سنة 1996، ومرات أخر في سنوات لاحقة، بما في ذلك إنجاز حوار فكري مطول معه، إلى صديقي الناقد صبحي حديدي الذي ربطته به علاقة وثيقة (كان الطرف الثالث فيها الشاعر الراحل محمود درويش)، فهو من عرفني به، ليتسنى لي بعد ذلك إنجاز الحوار، في إطار مشروع اوسع شمل جلسات حوارية مع عدد من المثقفين الفلسطينيين لمساءلتهم حول جملة من القضايا المتشابكة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولاسيما بحق العودة للفلسطينيين، كان بينهم إلى جانب إدوارد سعيد: هشام شرابي، حيدر عبد الشافي، محمود درويش، سلمى الخضراء الجيوسي، شفيق الحوت، وآخرين، جمعتها لاحقا بتشجيع من هشام شرابي في كتاب حمل عنوان "بيت بين النهر والبحر"، صدر في بيروت سنة 2000.

في الذكرى الحادية عشرة لرحيل إدوارد سعيد وجدت نفسي أعود إلى هذا الحوار الذي أنجزته معه سنة 1996، وترجم ونشر في لغات عدة بينها الفرنسية الإنكليزية والالمانية والتشيكية، واحتفى بإعادة نشره عدد من المجلات والكتب التي أصدرها نقاد غربيون، لأجد فيه التماعات قيمة للمفكر الراحل، يجدر بقراء العربية، اليوم، في ظل المخاض الكبير الذي نعيشه، أن يقفوا عليها. أما وقد تباعد الزمن بنشره عربيا، فلربما في الوقوف على محاور أساسية فيه فائدة معرفية مضاعفة في لحظتنا الراهنة، لما تحمله من برهان على النظرة الثاقبة التي ميزت فكر هذا الرجل حول جملة من القضايا الفكرية التي شغلت هذا المفكر في فترة حاسمة من حياته.

هذا النص
يهمني أن أشير، هنا، إلى أنني اعتمدت يومها في محور أساسي من محاور الحوار مع إدوارد سعيد على ما قام به صبحي حديدي من تلخيص لحلقات عمل المفكر في خمسة أعمال أساسية له هي: "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، "العالم، النص، الناقد"، "الاستشراق"، "تغطية الإسلام"، "الثقافة والامبريالية":

(في الأول عمل على نقد التمركز الأوروبي حول الذات.

في الثاني طرح، للمرة الأولى، منهج النقد العلماني والنظرية المترحلة، وكشف مدى تأثره بمدرسة النحاة العرب في التحليل البنيوي للنص، وأثر أستاذه أنيس فريحة في تعريفه على كلاسسيكيات الأدب العربي.

في الثالث حلل العلاقات المعقدة بين القوة والمعرفة من خلال قراءة ونقد الخطابات للغرب الاستعماري في الهيمنة على العالم واختزال وجود "الآخر" في ثيمات عليا ودنيا تنمطه وتستلب شخصيته الحضارية الخاصة تمهيداً لاخضاعه.

في الرابع نجد إدوارد سعيد يحلل تغطية الإسلام من قبل إعلام الغرب ومفكريه ويفكك الصور النمطية التي ركبها للإسلام بحيث يبدو منفراً ومرعبا.

في الخامس واصل تشكيل صورة الثقافة بعلاقتها بالهيمنة، وذلك من خلال استكماله لأطروحاته التي بدأها في كتابه "الاستشراق" عبر بحث علاقات القوة والمعرفة استناداً إلى التأثير الحاسم لـ "الخيال الامبراطوري" في تأسيس الشخصية الغربية المعاصرة، و"توريط" الثقافات بذاتها لاستكمال قسمات هذه الهوية من جهة، وتحديد قسمات "الآخر" من جهة ثانية)

هذا الرجل
لا يختلف اثنان في كون إدوارد سعيد مفكرا حراً، وأخلاقيا لم يهادن، ومثقفا موسوعيا رفيع الموهبة والمقدرة النظرية. كرس نفسه خلال رحلته القصيرة، نسبيا، قامة فكرية معاصرة تحركت من داخل النسيج الحي المصطرع للثقافات في العالم، وعكست بمنطقها المتماسك ورؤاها الخلاقة الأبعاد الإنسانية والتحررية للفكر، والقدرة على هدم أسس خطابات التسييد، كما فعل في جل أعماله.

اخترق إدوارد سعيد ببصيرته النافذة البنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب الاستعماري، ووضع من خلال كتابه "الاستشراق" علامة "غيرت وجه البحث العلمي حول الشرق والغرب، والغرب والعالم، والعالم الثالث إجمالاً" حسب دنيشيا سميث (أحد أبرز النقاد الأميركيين)، وجعلت الوعي المعاصر في الغرب يقيس في قراءته "الآخر" على ما قبل هذا الكتاب وبعده. وقد اعتبر إدوارد سعيد فيلسوفاً وناقد أدب وصاحب أفكار سياسية، يتحرك انشغاله في القضايا على قوس واسع يشمل مناطق تفكير مختلفة اختلاف الثقافات، ويملأ ثغرات أساسية تتعلق بالأسئلة الحضارية الكبرى.

القراءة الإسلامية

يعلن إدوارد سعيد، خلال الحوار، اختلافه مع القراءة الإسلامية لكتاباته وأفكاره، خصوصا في كتابه "الاستشراق"، ويعتبرها قراءة تأويلية معاكسة لاتجاه النص. في حين يعتبر القراءة العربية لكتابه هذا كاريكاتورية في بعض الحالات، لكونها جعلت لكلمة "مستشرق" وقع الإهانة! وهو يأسف لعدم ترجمة أي من مؤلفاته النقدية إلى العربية ليمكن للقارئ العربي الاطلاع على جوانب أساسية من فكره النقدي واهتماماته النقدية.

ولو أردنا أن نقيم موقفه بالنسبة إلى قضايا الحرية وحقوق الإنسان فهو موقف مشرف، لكونه بدا، باستمرار، مدافعا صلبا عن الحقوق الفردية والجماعية لكل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وعقائدهم، لا يتوانى عن مواجهة السلطة أيا كانت، انتصارا لحقوق الإنسان، وقد كرس فكره ومؤلفاته وحياته من أجل ذلك. (دفع في بعض الحالات ثمنا لذلك حظرا على مؤلفاته في أكثر من بلد عربي) فهو في الجوهر من عمله الفكري عمل على تفكيك الظواهر التسلطية والإخضاعية بأدوات فكرية بالغة الرقي، ووفق نظرة شمولية لم تكف عن مغادرة مواقعها المعرفية التي حصلتها، إلى استجلاء ما هو أكثر تطورا وغنى وإنسانية في التجارب الفكرية والروحية للبشر، ووقوفا على معاني وجودهم في الكون.

إن جانبا مهما من الحيوية الفكرية التي يتمتع بها إدوارد سعيد يتجلى في نص المحاورة التي نحن بصددها، والتي انتخبت منها مقاطع، وجرّدتها من أسئلتي التي استدعتها، وحرّرتها بأمانة تامة، لتكون بمثابة نص من مقاطع وفقرات بقلم إدوارد سعيد نفسه، لا يتعدى تدخلي فيه على وضع عناوين تميز بين أجزاء النص. وسوف يلمس القاريء، بلاشك، مدى صوابية أفكار إدوارد سعيد وارتباط القضايا التي تناولها هنا، مع المجريات العربية الراهنة، إن في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومآلاتها، أو بواقع الفكر والتفكير، وبشبكة القضايا المعقدة التي فجرت الانتفاضات العربية في ما عرف بـ"الربيع العربي".

فقرات من النص:
من نحن؟
نحن لم نحقق التحرير اللازم حتى يكون في وسعنا الكلام على مرحلة ما بعد الاستعمار. طبعا هناك ملامح ومحاولات، في الاقتصاد، خصوصا، وفي الفكر السياسي والفكر الإسلامي، والديني عموما، لكن هذه كلها مجرد ملامح، من دون أن يعني ذلك أننا بصدد طريقة تحليل جديدة، وأظن أن العامل الحضاري (الإسلامي العربي) هو إحدى الإشكاليات، فمن ناحية نحن نحاول أن نجيب عن السؤال حول ما هو الإسلام، ومن نحن كذات حضارية، ومن ناحية ثانية نحن في غمرة دفاع عن هذه الذات بإزاء تحديات "الخارج" و"الآخر"، من دون أن نخوض في تحليل معمق. وبالتالي نحن في مأزق هائل.

المثقف والسياسي
يخيل إلي، عموما، أن هناك في صفوف المثقفين العرب تماهيا بين ممارسة وظيفة المثقف من ناحية، ولعبة السياسي من ناحية ثانية. والذي أراه في هذه الفترة، أن هناك حاجة ملحة إلى فصل مطلق بين الاثنين وبكل تواضع، أرى أن الأخطر والأسوأ بالنسبة إلى المثقف هو أن يحاول الازدواج، أو المماهاة، بين حياته السياسية وطموحاته في السياسة (وضمناً تطلعه إلى المناصب)، وبين وظيفته كمثقف... هناك تكريس لمثل هذه الصورة، الآن، إلى درجة تلوث معها الخطاب المثقف، وأدى ذلك بالتالي –كما تقول- إلى اتهام المثقف بالتواطؤ، وهذه ليست تهمة فارغة أبدا.

المثقف العربي أعطى قبوله السريع جداً للتحول من موقعه المعارض إلى مساهم في الحكم، من دون أي مقابل حقيقي يحفظ له مكانة مستقلة، أو يبقي له مسافة تكفي لأن تحمي موقعه كمثقف حر.

وهذه الحالة نجدها سائدة بين المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين، على حد سواء، وهي حالة خطيرة جداً ومفسدة لمصداقية المثقف عند الناس، وأمام نفسه.
(...) أرى أن على المثقف – خصوصاً في هذه الفترة- أن يتكلم ويقول الحقيقة التي يراها بطريقة بسيطة جداً وواضحة، ومن دون أدنى تفكير بالعواقب.

طبعاً المثقف يريد أن يكون مؤثراً، وهو قادر في بعض الحالات لكن ليس عن طريق السلطة، وإنما من خلال الشعب مباشرة. عليه أن يخاطب الناس عبر الصحافة، والكتاب، وبشتى الوسائل والأساليب الممكنة والمتاحة. لكن أن يحاول ذلك من داخل السلطة ومن منطق الولاء لها، أو حتى من منطق مشاركتها، فهذا سوف يؤدي، بالضرورة، إلى تورطه أكثر فأكثر.

قراءة "الاستشراق"
تأثير كتاب "الاستشراق" في الهند أو اليابان أو في جنوب أفريقيا يبدو لي أكثر عمقا على مستوى التحليل، من تأثيره في العالم العربي. فالمدرسة التاريخية "دراسات التابع" في الهند مثلاً، والتي هي، في تقديري الشخصي، أهم مدرسة في العالم الثالث منتجة للخطاب ما بعد الكولونيالي في كتابة وتحليل التاريخ... الخ... وهذه تأثرت كثيرا بكتابي "الاستشراق"، هي مدرسة واسعة إلى درجة أن ليس هناك دائرة علوم تاريخية في جامعات أميركا إلا وفيها أحد ممثليها. والحقيقة أن ليس هناك شيء من هذا القبيل في حقل الدراسات المتعلقة بالتاريخ العربي أو الإسلامي، علماً أن تيار "دراسات التابع" أثر في اتجاهات تحليل وكتابة التاريخ الأميركي نفسه، وفي مدارس أخرى في العالم، وبالتالي، فإن كتابي، على ما أظن قريء في أماكن أخرى من العالم بطريقة أعمق مما حصل في العالم العربي.

السبب أن كتابي استخدم من قبل قرائه العرب كوسيلة صراع، أساساً، وليس على سبيل تطوير فكر تحليلي مبني على الأفكار المطروحة، إلى درجة أن الكلمة نفسها "الاستشراق" صار لها وقع الإهانة. فإذا كنت تريد أن تهين شخصا تقول له أنت "مستشرق". وهذه من النتائج السلبية جداً للقراءة الكاريكاتورية لكتابي، وهي قراءة معاكسة له، لأنني لا أقول الشيء نفسه، ولا حتى ألمح إلى هذا.

(....) وعلى الرغم من أن شهادتي مجروحة قليلا، فإن أهم ما في الكتاب هو أسلوب التحليل والتفكير والإطار النظري الذي تنتظم فيه النتائج، وليس النتائج السلبية نفسها التي لا يجوز تبسيطها إلى درجة يكرهنا... الخ... . والذي يخيل غلي، في النهاية أننا كمجتمع عربي –وأنا ربما منه- ما زلنا أسرى أنماط التفكير والصراع نفسها، لأننا ما زلنا لم نتمكن من أن نبتكر شيئا جديداً يساعدنا في التحرر من الماضي المظلم.

شكوى المفكر

دعني أضيف شيئا، وهو أن "الاستشراق" صدر في العام 1978، وخلال السنوات العشرين اللاحقة على ذلك كتبت حوالي عشرة كتب وبينها، خصوصا، كتاب "الثقافة والامبريالية" الذي صدر العام 1992، وهي تتوزع على حقول النقد الأدبي والفلسفة، وغير ذلك. المؤسف أن أياً من كتبي هذه ما زال لم يترجم إلى العربية، حتى الآن، وهي، بالتالي، مؤلفات مجهولة بالنسبة إلى العالم العربي. وهذا أمر يزعجني، لأن ذلك يعني أن أفكاري يجري تناولها ضمن إطار محدود.

لا وقت لدي
أظن أن على الكاتب، باستمرار، أن يحاول الإتيان بجديد، وأن يدعو إلى التركيز على مجمل ما لديه، بحيث لا يجري اختزال عمله، وهذا يستدعي معرفة بحلقات نتاجه المختلفة بحيث يمكن معرفة التطورات التي استجدت في تفكيره وبحثه من منطقة إلى أخرى، ومن حلقة إلى سواها.

أنا مهتم كثيرا في أن تقرأ الناس أعمالي. لكن اهتمامي الأكبر ينصب على الكتابة، وليس على إعادة النظر في ما كتبت. أعني أنني أريد أن أتابع مسيرتي قليلا...(...) إضافتي اللاحقة إلى "كتاب الاستشراق" جاءت بسيطة ومحدودة جداً، وكان يمكن أن تكون أوسع كثيراً، لكنني كما سبق وعبرت، ليس لدي وقت كبير أصرفه في إعادة النظر.

هل أنا ماركسي؟
مسألة الماركسية لا أحب التعرض لها، لأنني لا أريد أن أتورط في إشكاليات اصطلاحية، أي من قبيل ما هي الماركسية، وهل أنا ماركسي أم لا؟ المدارس لا تهمني من قبيل الانخراط العضوي فيها. ما أراه هو شيء آخر، تماما. وكمثقف مستقل وحر، أنا لا أعطي إلا أهمية دنيا لمسألة "الشعار" (ماركسي أو غير ماركسي). لكن لا شك في إن التحليل الماركسي، أو لنقل المادي، يحتوي على عبر وعناصر مفيدة جداً للوضع الذي نعيشه الآن، خصوصا في ما يمس العلاقات الاقتصادية. من الممكن مثلاً الإفادة من تحليل السلطة الذي لم يفكر فيه ماركس بالذات، لاستخدامه في الوضع الراهن، فما يلزمنا ليس إعادة الماركسية التقليدية، ولا استعادة الشعارات، ولكن أن ننتقي عناصر محددة ونعيد صياغتها في مقترب مبتكر عبر خطاباتنا الجديدة.