المخرج ديفيد لنيش (المصدر)
المخرج ديفيد لنيش (المصدر)
الثلاثاء 14 أكتوبر 2014 / 14:04

ديفيد لينش: مفتاح اللغز في يد الجميع

24 - إعداد: أحمد شافعي

يعتبر ديفيد لنش من المخرجين القلائل الذين يحملون بصمة مميزة خاصة بهم، طابعاً ولوناً لا يمكن أن يخطئه المشاهد، فأفلامه تتميز بصبغة فريدة، يستطيع المشاهد تمييزها بتحسس لغته وأسلوبه البصري والسمعي.

وأجرت مجلة ذي يوربيان حوراً مع المخرج الأمريكي المرشح 3 مرات لجائزة الأوسكار، وفيما يلي ننشر نص الحوار.

لو وصفنا أفلامك بالشاذة، هل توافق على ذلك؟
ولكنني حتى لا أعرف معنى الكلمة.

 معناها...؟
أعرف معنى الكلمة، لكن لا أعرف مغزاها، السينما مثل الحياة، لا يمكنك أن تضعها تحت كلمة واحدة، الأمر أكثر تعقيداً من هذا بكثير، إنها تعني أشياء مختلفة لمختلف الأشخاص. 

أعتقد أن "الشاذة" لافتة مناسبة تلخص أعمالك، لأنها تركز على الغريب والمألوف في الوقت نفسه، كأنها الحياة العادية بعد أن اختلت؟
هذا رأيك، وهو رأي جيد.

 ولكن؟
أعتقد أنك لو سألت 10 أشخاص مختلفين لحصلت على 10 أجوبة مختلفة على هذا السؤال، أعرف أن أعمالي غالباً ما توصف بالشذوذ بسبب لعبها على مفهومي الألفة والغرابة، لكن مثلما قلت، هذا مجرد تفسير واحد، وهو تفسير صالح لكنه ليس بالضرورة التفسير الوحيد الصحيح، أعمالي موضوعها الأفكار، وهذا قصارى ما يمكنني قوله في هذا الموضوع.

ماذا تعني بهذا؟
أفلامي استمرار للأفكار التي وقعت في غرامها، يكون يوماً جميلاً ذلك الذي أقع فيه في غرام فكرة، ثم إنني أعرف ماذا أفعل، أستطيع أن أراه أمام عيني، أستطيع أن أتصور الأشياء، بوسع فكرة أن تقول لنا كل ما نريد أن نعرفه.

- أعمالك في الأغلب مقبضة، ولكنك لا تبدو لي شخصاً سوداوياً، من أين يأتي افتتانك هذا بالأجواء المقبضة؟
العالم الذي نعيش فيه مقبض للغاية، وفي الوقت نفسه، هو مصدر رائع للأفكار، فلا مفر من وجود بعض العناصر المقبضة في الأعمال.
أعتقد أن الأفلام لا يمكن أن تقتصر على الخط السعيد وحسب، القصص تنطوي على الصراع وفي هذا سر جودتها، وفكرة أن الفنان لا بد أن يكون شقياً لينتج فيلما مقبضاً أو دراماتيكياً هي محض كلام فارغ، كل ما على الفنان أن يفعله هو أن يفهم ويترجم ما فهمه في عمله. يمكنه أن يكون سعيداً، شديد السعادة، ومع ذلك يصور مشهداً ينضح بالشقاء.

هذه المزاوجة بين الشقاء والمرح شيء ظاهر بوضوح في أفلامك؟
أنا بصدق لا أفكر في هذا، ولكنه يطفو من داخل الفكرة، هذه المزاوجة ليست شيئاً أحاول اصطناعه، هي موجودة لأنها شيء طبيعي، انظر إلى الحياة يمكن أن تكون مبتسماً في الصباح وباكياً في المساء، وليست السينما إلا لغة جميلة تعيننا على تبيان هذه المشاعر.

كيف تخطر لك هذه الأفكار؟
لا يعرف المرء متى تضربه فكرة، الأمر أشبه بتلفزيون يعمل داخل مخك وأنت تتفرج على ما فيه، ترى الشخصيات، وترى كيف تلبس، وكيف تتصرف، تسمعها وهي تتكلم، ويمكنك أن تلتقط إحساس الكلام والمزاج فيما بينها، كل شيء هناك، واضح وضوح الكريستال. ثم إن التليفزيون ينطفئ فتأخذ تفكر في ما رأيت، وتكتبه، وحينما تقرأ ملاحظاتك هذه في وقت لاحق، ترجع إليك القصة ومن هنا تبدأ، وهكذا أصنع الأفلام.

هل هناك أي شيء يثير هذه الأفكار؟
كل شيء يمكن أن يثيرها الموسيقى، المشي، الكلام مع الناس، الأكل، كل شيء ببساطة، الأمر أشبه بصيد السمك.

صيد السمك؟
لا بد لصيادي السمك من الصبر، ووضع الطعم، الرغبة في الفكرة أشبه بالطعم في الشص الذي ترميه في الماء، ثم تنتظر السمك أن تأكله، قد تبدأ بحلم اليقظة أو تناول الطعام، ولكن تركيزك يبقى منصباً على صيد سمكة كبيرة، وحينما تقضم الطعم في النهاية، تستلها من الماء، ولعلك تقع في غرام هذه السمكة، ربما هي السمكة التي كنت في انتظارها لزمن طويل، أو ربما ليس هناك إلا شذرة من السمكة التي تحبها، فهذه الشذرة قد تكون طعما لسمكة أكبر.

في ذلك عنصر معين من العشوائية والكفاح، لأنك لا تدري متى ستأكل السمكة الطعم، إن أكلته.
بلا أدنى شك، فليس بوسعك أن ترغم سمكة على الأكل، يمكنك أن تشتهي فكرة لكنك لا يمكن أن تولجها في رأسك، عليها هي أن تجد طريقها بنفسها.

 تمارس التأمل "الترانسندنتالي" وتروج له، هل يساعدك هذا على صيد السمك الكبير؟
نعم لأنه يتيح لي الصيد في المياه العميقة، هو تكنيك ذهني قديم يتيح لك أن تغوص إلى أعمق مستويات الحياة وتتسامى عليه، أعني ذلك الموضع الذي يمثل قاعدة المادة والعقل كلهما، والعلم الحديث اكتشف المجال الموحد وهو اتحاد جميع الجزيئات والقوى، ذلك المجال هو ما تمر به حينما تتسامى وإذا بمحيط من الوعي تحت قدميك.

هل بوسعك أن تصف هذا الموضع؟
إنه أبعد من الكلام، تبدأ في توسيع وعيك ولذلك الوعي منزلة، هو ذكاء لا محدود، إبداع، سعادة، حب، طاقة، وسلام، وهو موجود في كل إنسان، ويجعلك تصنع من اللاوعي وعيا وتطوِّر قدراتك كإنسان، فليس هناك ما يسمَّى اللاوعي، بل الوعي المحض، كل شيء يغمره النور، إنه النور الأتم، إنه محيط مليء بحلول المشكلات.

هل التهكم والسخرية اللذان لا يزالان يسيطران على بعض الناس في مواجهة التأمل يصيبانك بالدهشة؟ لو أن التأمل يوفر لنا حياة أفضل، فلماذا نحتقره؟
التهكم والسخرية يبعدان الناس عن السعادة. التشكك عموما فضيلة، ما لم يحرمك من شيء جيد، وتعرَّض التأمل للتحليل والاختبار على مدار عقود، ومن كل زاوية ممكنة، بحثا عن أي جوانب سلبية فيه، لكن لا يوجد مثل هذا، لا يوجد فيه أي شيء سلبي.

أفلامك بطريقة ما تدريب عقلي أيضاً، فهي ممتلئة بالألغاز، وأنت تريد الناس أن يدققوا ويتشككوا فيما يرون، هل تعتقد أن اللغز غريزي في الطبيعة البشرية، أنه احتياج إنساني أساسي؟
بالقطع، كلنا مفتشون سريون نسير بكشافاتنا ودفاترنا، كلنا نشعر أن ما يجري أكبر مما تراه أعيننا، وليس بوسعنا أن نزعزع هذا الشعور لأنه جزء من طبيعتنا، وهناك نقطة لا يستطيع الناس بعدها أن يحيدوا بأبصارهم، بل يتحتم عليهم الاكتشاف. ويصبح حل اللغز هاجساً.

تتمنع كثيراً، وأنت محق في هذا، عن الحديث عن مواضيع أفلامك لأنك تريد أن يكوِّن الناس أفكارهم الخاصة في ما يرون، وقلت مراراً إن الناس تعرف إلى حد بعيد عن أي شيء تدور أفلامك، فما الذي يجعلهم راغبين في تأكيد خارجي لما يعرفونه؟
لا أعرف

لعلهم لا يثقون في عقولهم، ويبدو أن الشيء الوحيد الذي لا يمكن احتماله أكثر من الغموض هو اللايقين والجهل؟
ذلك فعلا لا يحتمل، هو عملياً عذاب، حينما ينكشف شيء، يصبح حقيقة لا يعريها الشك، ولا أريد أن يحدث هذا لأفلامي، كل منا لديه مفتاح اللغز، فلماذا ينبغي عليَّ أنا بالذات أن أستعمل مفتاحي.

لأنك تعرف الإجابة أصلاً ويمكنك أن تمنحها للمشاهدين وتعفيهم من العذاب؟
أعرف بعض الأشياء عن أفلامي، فهي تمثل لي شيئاً معيناً، ولكن هذا الشيء في حالة سيلان دائمة، قد أقدِّر شيئاً ما هذا التقدير أو ذاك، وبعد سنتين، يتغير معناه لديّ تغيراً تاماً، لقد تسامى عن معناه الأصلي وأصبح شيئاً أكبر، ومن ثم لست أفضل من يجيب هذه الأسئلة.

غالباً ما تثير أفلامك "نوستالجيا" قوية إلى الماضي الأمريكي، لا سيما براءة الخمسينيات، هل تصف نفسك بالنوستالجي؟
كل الناس هكذا هناك مشاعر جليلة إلى درجة أن تستولي على العقل، هذه المشاعر تثيرها أماكن معينة، أو أصوات، الذكريات التي تخطر لك تخلق فيك ابتهاجاً، ابتهاجاً لا شائبة فيه.