الأحد 19 أكتوبر 2014 / 19:58

في الثورة


من ضمن المُعْضلات السياسية التي شبَّهَتها حنّة أرنْدت بمشكلة تربيع الدائرة في الهندسة، لا سيما أثناء وبعد الثورات، هي كيفية إيجاد قانون فوق الفرد. يقول روسو: إن الذين يجتمعون معاً لتكوين حكومة جديدة هم أنفسهم غير دستوريين، بمعنى أنهم لا يملكون سلطة للقيام بذلك التشريع. إن الحلقة المُفْرَغَة للقيام بالتشريع ليستْ موجودة في عملية وضع القوانين بل في وضع القانون الأسمى، القانون الأعلى. إن المُعْضلة تنطوي على حاجة مُلحة لمطلق ما. ولمَّا كانت الثورة أثناء فورانها قد هدمتْ مطلقاً آخر مُتحجِّراً، فهي الآن في حاجة لشيء شبيه يَصْعُب عليها إرساؤه من جديد، لأن أحد أسباب اكتسابه، وهو البُعْد والحياد الزمني والرسوخ المُتحجِّر، كان هو نفسه ما قامتْ الثورة بهدمه ضمناً دون قصد، وهي الآن تبحث عنه. مُفارَقَة، الثورة هي التي هدمتْ الجمود الراسخ في الزمن. إن الحاجة المُلحة إلى مطلق ما في الكيان السياسي للجمهورية، ظهرتْ أثناء الثورة الفرنسية، عندما حَاوَل روبسبير بيأس إيجاد عبادة جديدة لقانون أعلى، وعندما طرح مقترحه، بدا وكأنَّ وظيفة القانون الأعلى الجديد، هي إيقاف الثورة عند حدٍ، والتي كانت قد انطلقتْ في الشوارع كالمجانين، وبدا أيضاً وكأنَّ روبسبير يريد أن يكبح بهجة الثوريين التي فشلتْ فشلاً ذريعاً. من أشهر شعارات الثورة المصرية هو "الثورة مستمرة"، فكيف لروبسبير، وبأثر رجعي، أن يقطع على الثوريين المستقبليين استمرار بهجتهم، واستمرار فشلهم. ردد الثوريون بشكل لا شعوري وبإسراف كلمة "البهجة"، وهم لا يعرفون مصدر بهجتهم، ولو قلت لهم بأن مصدر بهجتهم لا يعني سوى الفوضى، لقطعتْ داعش رأسك بالنيابة عنهم. إن الثورة كانت تطمح إلى وضع قانون أعلى، عبادة جديدة، تكون من القوة والمرونة والتواضع بحيث لا تُناطح قدرة إلهية مطلقة. والمهمة لم تكن سهلة، والدليل أن روبسبير كان يقوم بتغيير مصطلحاته، على الرغم من أنها كانت تعني شيئاً صعباً واحداً، فتارة يٌسمي القانون الأعلى، المشروع الخالد أو اللجوء المتواصل إلى العدالة أو المصدر الفائق دائم الوجود الذي لا يتماهى مع الإرادة العامة للأمة أو مع الثورة نفسها، حتى يُمكن لقوة مطلقة إضفاء سيادة على الأمة، وحتى يُمكن لخلود مطلق ما، أن يضمن بقدر الإمكان شيئاً من الدوام والاستقرار للجمهورية، وأخيراً حتى يُمكن لسلطة مطلقة ما أن تعمل بكونها مصدراً لقوانين الكيان السياسي الجديد. في الثورة المصرية بموجتيها 25 يناير و30 يونيو، حَاوَل الثوريون طوال الوقت، وعلى وجه الخصوص بعد الموجة الثانية، حين شعروا بسحب بساط البهجة من تحت أقدامهم، مُماهاة ومُضاهاة قانون السلطة الجديد غير الديني بقانون مطلق ديني، إزاحته من إطلاق ما إلى إطلاق دون قيد، وأنكروا أن توازناً صعباً تُحَاوِل السلطة إقامته، بحيثيات القوة والمرونة والتواضع، بين القانون الوضعي والقانون السماوي، مع أنهم صمتوا على تلك المُماهاة أو المُضاهاة حين كانت موجودة بالفعل في العام الكارثي من حكم الإخوان. لا يستطيع أحد تجنب الحقيقة الإشكالية التي مفادها أن الثورات، وما تجره معها من حروب وفوضى، هي التي دفعتْ السلطة المصرية بعد 30 يونيو إلى اللجوء لتوزان ما مع السلطة الدينية، وفي نفس الوقت تعمل على تحرير المجتمع من قبضة الديني تمهيداً لفصل السياسة عن الدين بقدر الإمكان. هذا التوازن أشبه بمُعَادَلة كبيرة يعمل الجميع على نجاحها بدرجة أو بأخرى، ومع الوقت واليأس من عودة فردوس البهجة، يدخل إلى هذا التوازن راديكاليون ثوريون، يدخلون في دولاب الدولة البيروقراطي، يجددون دماء الدولاب، لكن تحت سقف الإصلاح، ويتقبَّلون التهاني بصمت وحياء على مواقعهم الجديدة ثم ينتقدون بصوت الاعتدال والموضوعية إذا تعرَّضوا للسب الجارح من فلول الراديكاليين.