المفكر والمتخصص في العلوم السياسية، فرانسيس فوكوياما(أرشيف)
المفكر والمتخصص في العلوم السياسية، فرانسيس فوكوياما(أرشيف)
الأربعاء 22 أكتوبر 2014 / 01:57

3 دروس للتنمية الآسيوية يقدمها فرانسيس فوكوياما في كتابه الجديد

24 - عرض: طارق عليان

هناك قاعدة أساسية في الحياة الفكرية، وهي أن الشهرة تدمر الجودة، فكلما ازدادت شهرة المؤلف، ازداد احتمال أن يكون ما ينتجه كلاماً فارغاً، والأكاديميون النجوم يهجرون المكتبات إلى دوائر المحاضرات، والصحافيون الكبار يحصلون على معلوماتهم من عشاءاتهم مع علية القوم بدلاً من التنقيب عنها بجدية، فهناك أحاديث ينبغي إلقاؤها وتودد ينبغي إظهاره أكثر من أن يترك وقتاً للفكر الجاد.

يقدم فوكوياما نبأ ساراً هو أن هناك مخرجاً من الدولة عديمة الفعالية وذلك بإنشاء خدمة مدنية تتميز بالكفاءة وقائمة على الجدارة لكن النبأ غير السار هو أن هذا قد يصعب تنفيذه خارج شرق آسيا

فرانسيس فوكوياما استثناء ساطع لهذه القاعدة، فقد حظي بإشادة عالمية بنشره كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" “The End of History and the Last Man” في عام 1992، ونال استحساناً أعظم في أوائل العقد الأول من القرن الجاري بهجومه الحاد وانتقادته التي وجهها إلى حركة المحافظين الجدد التي نشأ في أحضانها، لكن بدلاً من استغلاله شهرته، كرَّس العقد الماضي لإنتاج دراسة بالغة الأهمية لتاريخ ما يسميه "النظام السياسي".

 في الجزء الأول من هذه الدراسة والمعنون "أصول النظام السياسي" “The Origins of Political Order” تناول فوكوياما القصة من أزمنة ما قبل الإنسان إلى أواخر القرن الثامن عشر، وها هو الجزء الثاني والأخير يتم القصة إلى وقتنا هذا، ويستند هذان الكتابان إلى مقدار مذهل من العلم والمعرفة.

 الكتاب الجديد الذي صدر لأستاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما ويحمل عنوان "النظام السياسي والتفسخ السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية" رائعة من الروائع لا يمكن الإحاطة بمضامينها بسهولة في أية مراجعة، يأتي هذا الكتاب كتتمة لكتاب سبق يصف النشوء السياسي حتى الثورة الفرنسية، ويستأنف القصة ذاتها وصولاً بها إلى العصر الحديث.

تطور آسيا السياسي

يشتمل كتاب فرانسيس فوكوياما على بعض الدروس المهمة حول تطور آسيا السياسي، هي كالتالي:

أولاً: الديمقراطيات التي تبدو في ظاهرها فوضوية وفاسدة يمكنها في واقع الأمر أن تكون مفيدة لشعبها على مستوى ما، ولا سيما من حيث الحراك الاجتماعي، إذ يوضح فوكوياما أن الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كانت تتألف من كثير من شبكات المحسوبية المؤلفة من متبوعين وأتباع على نحو يشبه ما نراه في البلدان النامية في يومنا هذا.

ففي مقابل الأصوات - وهي غالبا أصوات جماعات الفقراء أو المهاجرين - كان بمقدور السّاسة الواعدين أن يزيدوا من قوتهم ويؤسسوا ماكينات سياسية فيما يعطون أنصارهم المراكز والامتيازات والمنافع في الوقت نفسه.

ساعدت هذه الممارسة مثل هذه الجماعات على أن تصبح جزءاً من النظام، مع حصولها في الوقت نفسه على إمكانية وصول إلى السلع والخدمات العامة في المناطق التي كانت ستتعرض فيها للتهميش في ظروف أخرى، ويستحضر هذا النظام إلى الأذهان الهند ونظامها السياسي على مدى العقود القليلة الماضية بما تشتمل عليه من وفرة في الأحزاب الإثنية والإقليمية والطبقية.

فعالية الدولة..والفساد
ثانياً: يمكن أن يصل بنا الحال إلى إدراك حقيقة أن المشكلة الرئيسية هي في الواقع فعالية الدولة لا الفساد، فالدول الفعالة القوية - سواءً أكانت ديمقراطيات أو أوتوقراطيات - تنفذ قوانينها وخدماتها، في حين أن الدول غير الفعالة لا تفعل شيئاً من ذلك، بغض النظر عن نوع الحكومة فيها، وبحسب أحد مؤشرات الفساد المهمة، لا يزيد الفساد في الهند إلا بدرجة طفيفة عنه في الصين، كما أن الهند أقل فساداً بكثير من روسيا.
غير أن الفوارق بين البلدان تعادل قوة دولها لا فساد نظامها السياسي. وفي حين أن البيروقراطيين الصينيين ربما يقتطعون نصيباً أكبر، فإنهم مع ذلك يتمكنون من تنفيذ سياسات حكومتهم بفعالية، وذلك على خلاف الحال في الهند.

وأخيراً، فإن النبأ السار هو أن هناك مخرجاً من الدولة عديمة الفعالية، وذلك بإنشاء خدمة مدنية تتميز بالكفاءة وقائمة على الجدارة، لكن النبأ غير السار هو أن هذا قد يصعب تنفيذه خارج شرق آسيا، حيث يوضح فوكوياما أن البلدان الشرق أسيوية، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان، تتمتع بسجل قوي في مجال توفير حوكمة تتسم بالجودة بفضل التأثير الكونفوشي.

وأشار فوكوياما إلى أن هناك بلداناً غير آسيوية، مثل بريطانيا وبروسيا، تمكنت من تأسيس بيروقراطيات فعالة؛ لأنها كانت تعمل مع فئة صغيرة من الأفراد المتعلمين أصحاب الخلفيات المتشابهة.

بالإضافة إلى ذلك، فإنها تمكنت من فعل ذلك قبل أن تصبح ديمقراطيات، مما حال دون استيلاء الساسة الذين يوزعون العطايا في إطار المحسوبية على ماكينات الدولة. لكن أفضل نموذج للبلدان الأخرى، ولا سيما البلدان من قبيل الهند التي هي ديمقراطيات بالفعل، بحسب المؤلف، هي أن تحاول محاكاة الولايات المتحدة والطريقة التي أسست بها حكومة فعالة نوعاً ما في القرن العشرين.

إنجاز الدنمرك
يقارن فوكوياما بين إنجاز الدنمرك وغيرها في إنشاء دول ناجحة وبين نوعيْن من الإخفاقات، أولهما هو إخفاق المؤسسات في مواكبة التغير الاجتماعي، كما هو الحال في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية، فبعد سلسلة من الإصلاحات في الثمانينيات، نجد أن حكومة البرازيل عبارة عن مزيج من الوزارات فائقة الجودة ومستنقعات المحسوبية.

والثاني هو الإخفاق المؤسسي الجماعي، إذ كان إخفاق الربيع العربي في جوهره إخفاقا للقدرة الحكومية، ففي مصر، أخفقت جماعة الإخوان المسلمون في فهم الفرق بين الفوز في انتخابات معينة والفوز بالسلطة الكاملة، لذا عادت الطبقة الوسطى - على مضض - إلى اعتناق السلطوية.

ومع ذلك فهذه ليست قصة بسيطة تتناول الغرب مقابل البقية، ولا العالم المتقدم مقابل العالم النامي، حيث ينوه فوكوياما إلى أن أوروبا الشرقية متأخرة كثيراً عن أوروبا الشمالية، إذ ما زالت اليونان وإيطاليا توزعان الوظائف على أساس المحسوبية.

لكنه يبلغ ذروة تشويقه فيما يخص شرق آسيا، فقد أنتجت الصين دولية قديرة للغاية، يشغل المناصب فيها موظفون مدنيون من الطراز الأول يقع الاختيار عليهم من خلال اختبارات تحريرية وقادرة على متابعة شئون إمبراطورية مترامية الأطراف.

إحباط تطغى عليه جودة الفكر
الكتاب محبط في بعض الأحيان. وكثيرًا ما يثقل فوكوياما على قارئه بعلمه الغزير، والبابان الأولان من هذا الكتاب، اللذان يتناولان الدولة والمؤسسات الخارجية، طويلان أكثر مما ينبغي، وأما البابان الثانيان، اللذان يتناولان الديمقراطية والتفسخ السياسي، فقصيران أكثر مما ينبغي، لكن هناك شيئيْن يعوضان إخفقاقات فوكوياما العارضة، وأكثر.

الأول هو جودة فكره، إذ ينثر في الكتاب أفكاره الثاقبة التي تجعلك تقف وتفكر، وهو يقول إن الولايات المتحدة حافظت على ملامح إنجلترا إبّان الملك هنري الثامن لفترة طويلة بعد أن تخلت إنجلترا نفسها عنها، بما في ذلك التأكيد على سلطة القانون العام، الذي هو تراث من الحكم الذاتي المحلي والسيادة المقسمة بين هيئات عديدة واستخدام الميليشيات الشعبية.

فوكوياما واليأس من السياسة الأمريكية

أما الشيء الثاني فهو يأسه من الوضع الحالي للسياسة الأمريكية، ففوكوياما يجادل قائلاً إن المؤسسات السياسية التي سمحت للولايات المتحدة بأن تصبح ديمقراطية حديثة ناجحة آخذة في التفسخ، ولطالما تمخض تقسيم السلطة عن احتمال حدث جمود.

إن رسالة فوكوياما المحورية في كتابه الطويل كئيبة مثلما كانت الرسالة المحورية في "نهاية التاريخ" ملهمة، إن التفسخ السياسي يستطيع - ببطء في البداية، لكن مع اكتساب زخم بعدئذ - أن يضيع المزايا العظيمة التي تمخض عنها النظام السياسي وهي مجتمع مستقر ومزدهر ومتناغم.

خلاصة القول، يصف كتاب فوكوياما الشروط اللازم توافرها للدول الحديثة الناجحة وسمات هذه الدول، ويستند هذا العمل إلى معين واسع من المعرفة بالنظرية السياسية والأنثروبولوجيا والتاريخ وطبيعة المؤسسات.