الخميس 23 أكتوبر 2014 / 20:58

شيء عن شمعون بيريس



عندما سمح ديفيد بن غوريون للفتى المتحمس شمعون بيرسكي، الذي سيصبح شمعون بيريس فيما بعد، بالجلوس إلى جانبه في السيارة التي كانت تقله في جولة جنوب فلسطين، كان الأمر يبدو قدرياً بالنسبة لفتى يهودي صهيوني متحمس ولد في روسيا البيضاء لأب يعمل في تجارة الأخشاب وأم مدرسة، وهو يتابع الجسد القصير الممتلئ لـ"الأسطورة" اليهودية البراغماتية وهو يشير إليه بالصعود إلى جانبه في المقعد الخلفي للسيارة.

في الطريق وبينما كانت السيارة تنحدر من حي تل أبيب عبر يافا نحو الجنوب، تحدث العجوز عن أشياء كثيرة دون أن يتطرق في حديثه للحقول المزروعة المترامية ولا الفلاحين الفلسطينيين والبيوت العربية ذات الأقواس والأسيجة النباتية المتسلقة، لم يكن يراهم ولم يكن يريد للفتى أن يراهم أيضاً، كان الأمر يشبه رحلة في الزمن، وكان مستغرقاً تماماً في الحديث عن "صلح بريست" عشية الحرب الأهلية الروسية وإجراء مقارنة شخصية بين الروسي فلاديمير إيلتش لينين واليهودي تروتسكي، والبحث عن فروق بين الرجلين.

لا شك أن تلك المحادثة الغريبة تركت أثرها في تفكير المهاجر البولندي. روسيا البيضاء كانت في حينها ضمن حدود بولندا، بيريس الذي سيصبح واحداً من أهم السياسيين في إسرائيل خلال العقود السبعة التي تلت تلك الجولة، وسينضم لاحقاً إلى أنصار وتلاميذ بن غوريون الأكثر إخلاصاً.

ولكن الأهم كان تلك الإشارة القدرية الثقيلة التي حكمت مصير الرجل مثل لعنة، فقد بقي حتى نهايات حياته السياسية الراكب الثاني في الحافلة في متوالية ثابتة على نحو غريب.

هكذا كان بعد أن تيتم أبناء بن غوريون من الجيل الثاني. وهو ما حدث خلال شراكته مع رابين القادم من الجيش، وهو ما حدث مع شامير، ثم مع باراك الشاب جندي رابين المدلل، بينما سحب هو لعنته على تلميذه يوسي بيلين الذي تطرف في يساريته أكثر مما ينبغي، ثم مع شارون مجايله وخصمه التاريخي.

قبلها كان قد خسر في اللحظة الأخيرة الانتخابات مع بنيامين نتانياهو تاجر الأثاث القادم من أمريكا وابن المؤرخ الأصولي وأخبث أمراء الليكود وأشدهم دهاء .

حتى عندما وقف على منصة جائزة نوبل للسلام كان ثالثاً وكان حضوره باهتاً فيما الأضواء كانت تلاحق عرفات ورابين.

وعندما قرر أن يحصد ثمرة جهوده ليصبح رئيساً شكلياً للدولة، وهو موقع لا يشكل طموحاً لرجل خدائع مثل بيريس وبدا قبوله بالترشح أقرب إلى اعتراف بالهزيمة، رغم مرارة الفكرة، خدعه رجال شاس واختاروا في اللحظة بعد الأخيرة الشخص الوحيد الذي لا يصلح للموقع " موشيه كتساب" السفارديمي من الليكود، والذي يقضي الآن عقوبته في السجن بسبب التحرش الجنسي واستغلال المنصب.

ثلاثة أحلام حملها المهاجر البولندي إلى الشرق الأوسط، ثلاثة كوابيس مغبرة تتعثر خلفه وهو يطوي العقد التاسع من عمره، ابن تاجر الأخشاب ومعلمة اللغة الروسية الذي وصل إلى حي تل أبيب عام 1934 في الحادية عشرة من عمره: شراء السلاح وتعزيز الرواية الصهيونية عن فلسطين، بناء مفاعل ديمونا وتخزين عشرات الرؤوس النووية المغطاة تحت الأرض وتحت مظلة سياسة الغموض التي كان عرابها، سيطرة اسرائيلة مطلقة على حيوات ومقدرات شعوب المنطقة بكل ما تعنيه هذه السيطرة من إغراق المنطقة بالدماء ومن عمليات قتل وإبادة وتصفية عرقية وتفكيك لمكوناتها، وما تؤدي إليه هذه الآليات من عبوديات معاصرة ذات جوهر ظلامي عنصري، وأن يكون محبوباً وحكيماً واستثنائياً بشكل كلي.

ويمكن هنا إدراج خطته التي عرضها على بن غوريون، بعد سنوات من تلك الجولة في سيارة الزعيم، لشراء واستعمار "غويانا الفرنسية" وزرعها بنصف مليون مستوطن يهودي كاستكمال لأحلامه بـ "إمبريالية يهودية" ذكية وذات عمق وتماس مباشر مع أوروبا.

لأمر ما شكل تأثيره ونفوذه على فرنسا في الخمسينيات وحتى استقلال الجزائر سراً مكشوفاً، إذ من خلالها مرر بناء وتمويل البرنامج النووي الإسرائيلي وصفقات الأسلحة بما فيها صفقة الميراج 3 التي قلبت موازين القوى في المنطقة، كذلك بناء التحالف في العدوان الثلاثي على مصر..، ولكنه في كل هذا كان يؤكد رسائله الدموية الثلاث للمنطقة.

سيصبح رئيساً للدولة فيما يشبه جائزة ترضية أو مكافأة نهاية الخدمة، وعلى فترتين متعاقبتين ولكنه لن يترك أثراً في سياسات الجيل الثالث.

لم ينجح في الوصول إلى تلك الزاوية التي حلم بها وعمل من أجلها، لعله نجح في إغراق المنطقة بالخدائع والموت، الخدائع التي لم ينج منها حتى حلفائه، ونجح في زرع عشرات الرؤوس النووية تحت التلال والمنحدرات الذاهبة إلى النقب والتي تهدد ملايين البشر وتبتز عالماً كاملاً، ولكنه بالتأكيد لم ينجح في أن يكون حكيماً ومحبوباً واستثنائياً.

ها هو يصعد عقده التاسع وتصعد خلفه أرتال الذين تسبب في موتهم وهجرتهم وتحدق فيه عيونهم ويصغي لصوت أقدامهم الخفيفة وهي تتجاوز جسده الهرم، وأصوات بناتهم وأولادهم وهم يتنادون في الطرقات وعلى التلال، فكرة الصبر والوقت التي تتقنها هذه الأرض وأهلها تتبعه مثل قصاص لا يتوقف، أولئك الذين أقنعه معلمه، عندما كان فتى، في تلك الجولة بالسيارة بغيابهم، يبدو حضورهم الآن في كوابيسه تحديداً أقرب إلى سخرية طويلة، أو مأساة شخصية لم يعد بالإمكان تلافيها.