الإثنين 27 أكتوبر 2014 / 01:19

الانتخابات التونسية بعد 4 سنوات.. تونس تنتخب والنهضة تنتحب



أصرت مكاتب التسويق والدعاية على اختيار "الربيع العربي" لتوصيف الحالة التي انطلقت من تونس إلى عدد من الدول العربية الأخرى في مستهل 2011، وفات تلك المكاتب التي انتقت المصطلح بوحي من ربيع براغ في 1968، لأهداف لم تخف وقتها على المتابعين لحلقات الصراع بين المعسكرين الشرقي ممثلاً في الاتحاد السوفياتي والغربي في الولايات المتحدة، أن فاكلاف هافال الذي قاد انتفاضة الشوارع في 1968، كان مثقفاً ومسرحياً قبل أن يكون سياسياً، صاحب فكر ورسالة ورؤية تراهن على الإنسان والحياة، ولعله نجح بعد سنوات وعقود من الإصرار.

وفي منطقتنا، اختطفت وكالات الدعاية السياسية والخدمات الإعلامية و"الثينك تانكس" انتفاضة شعبية على الفساد المالي والسياسي الذي كان مستشرياً من مسار للمطالبة بالإصلاح، لتجعل منه نسخة معدلة من براغ مع جبة تونسية أصيلة قبل أن تنتشر في عباءات وملاءات عربية كثيرة أخرى، وعمائم إسلامية مشبوهة.

ورغم أن الجماهير الهادرة التي خرجت في آخر 2010، للمطالبة بوضع حدّ لمسار استنزاف مقدرات البلد ومستقبل الأجيال لم ترفع شعاراً إخوانياً واحداً، ولم يكن البوليس السياسي ولا الرسمي وراء ذلك بالضرورة، ولم يطلع بين الوجوه التي تحدت خطر الملاحقة والاضطهاد، لا صاحب ذقن أو عمامة، ولا سلفي ولاجهادي، فقط شباب غاضب وبحر هائج وحناجر منددة ومتحدية.

وفي ظرف أشهر قليلة، تحركت آلات ودارت دواليبها، لعل ذقن الغنوشي يشبه أو يذكر بشوارب هافلاف الضخمة، وتختطف تونس من حداثتها المتألقة لتلقي بها إلى جحيم إخوانية النهضة، بعد انتخابات كثر حولها الحديث منذ اللحظة الأولى التي أغلقت فيها أبواب الاقتراع، وكأن الأمر يتعلق بجريمة تحتم التستر عليها في أقصر وقت ممكن، ما جعل كابوس النهضة يجثم على صدر أكثر من ثلاثة أرباع التونسيين الذين لم يشاركوا في الانتخابات في 2011.

وكما أخطأ أصحاب التوصيف، أخطأ الإخوان أيضاً، ولكن خطأهم كان مضاعفاً، أولاً بسبب الطمع في السلطة والعمى السياسي ما قادهم إلى اقتراف أبشع الجرائم في حق بلد الربيع الدائم تونس الخضراء، الربيع الحقيقي، بدءأ بالسعي إلى تحويلها إلى "مركز تجاري جديد" بالدفع بها إلى جهنم التطرف والإقصاء والتكفير على يد من وصفهم زعيم النهضة راشد الغنوشي، بالذين يذكرونه بشبابه، وصولاً إلى النبتة الشيطانية التي فرختها النهضة في فترة لم تتجاوز أسابيع قليلة، عندما شب في أرض تونس الطاهرة حريق الإرهاب بمباركة من الإخوان في تونس كما في مصر كما في ليبيا وفي سوريا من بعدهما.

أما الخطأ الثاني الذي ارتكبه الإخوان، فرهانهم الذي تبين خسرانه على قصر ذاكرة التونسيين، وعلى انصرافهم "المُبرر" بعد خيبة 2011، عن الانخراط في الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأخيرة، بعد مناورة" التنحي عن السلطة"، إذ كان تأكيد النهضة على أنها تركت السلطة لذوي الاختصاص في إطار صفقة "وطنية" بعد أن فخخت الإدارة ودوائر القرار ودواليب الدولة والإدارة على مختلف درجاتها بأنصارها ومؤيديها، ولعل الذي حصل قبل الانتخابات الأخيرة، من تلاعب في القائمات الانتخابية وحرمان عشرات الآلاف من التسجيل في القائمات لأداء واجبهم وحقهم في طرد النهضة من دائرة القرار، خير دليل على ذلك.

ولكن التونسيين الذين لدغ معظمهم في 2011، من جحر النهضة، كانوا أكثر ذكاءً وأكثر قدرة على قراءة الأحداث والوقائع وأكثر دراية من أساطين النهضة وحلفاءها ، فالتونسي يعرف بالفطرة، أنه بعد الربيع صيف وبعد الصيف خريف، وبعد ربيع النهضة، الذي تسبب في حساسية شديدة وأزمة قاسية سياسية واجتماعية، والذي أعقبه صيف حصد فيه التونسيون مرارة وإحباطاً لا يوصف بسبب استشراء الفساد من جهة وانعدام الكفاءة وتفشي الإخوانية السوداء، جاء الخريف، في أكتوبر (تشرين الأول) فصل الحرث، واقتلاع ما حاولت النهضة زراعته في تربة تونس الطيبة.

خسرت النهضة التي لم تعرف ولن تعرف بسبب ضيق أفقها السياسي الهزيل، لأنها راهنت على أن التونسيين سيسلمون لها كما سلموا في 2011، ولكن الصفعة القاسية التي وجهها التونسيون الأحد للإخوان، الذين قضوا 30 سنة على حلم الوصول إلى السلطة والتمسك بها بعد أن اطمأنوا إلى هيمنتهم على مقدرات صناعة القرار السياسي، بالاعتماد على قاعدة شرعية هزيلة كما حدث في 2011، فإذا بالناخبين التونسيين ورغم أن 20% من التونسيين منعوا من التمتع بحقهم الانتخابي، يهبون للتصويت بنسبة أكثر من 60%، وهب أكثرهم لوضع بطاقته في صندوق التصويت صارخاً بأعلى صوت: النهضة "ديقاج"، وكما أرغموا بن علي على مغاردة البلاد بأصواتهم وحناجرهم الهادرة، جاءت الصرخة الانتخابية المدوية لتصم آذان الإخوان، ولتطلق في آذان المواطنين التونسيين، أغنية فرح طويلة.