الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 / 10:15

نظرية النموذج الأعلى وصناعة الفشل



هل من سبب مقنع لذلك الهوس بتقييم الآخرين، والرغبة في تقويمهم وتوجيههم؟

الكل متربص بالكل، ينتظر سقطة أو هفوة، يلتقطها ويبني عليها مطولة وعظية، تدخل من باب الأخلاق وتخرج من باب الحكمة، ويظل يدندن بها، مستخرجاً ألواناً مما لذ وطاب من فنون القول والخطاب، حتى يصير بين الناس خطيباً أريباً، أو ناقداً فهيماً، أو عالماً عظيماً، أو إعلامياً عليماً، وإن ظلّ بينه وبين نفسه، ممتناً لأخطاء الآخرين لأنه بالأساس صنيعتها. 

جزء أصيل من ثقافتنا مصاب بهذا (الفيروس) الذي يجعلنا نستسهل البحث عن عيوب ما ينجزه الآخرون، بدلاً من الانشغال بتطوير منجزاتنا الخاصة. 

لا أعرف يقيناً سر ذلك، ولكنه بات أمراً فاحش الوضوح، تراه في كل مجال، وفي كل صنعة، وفي كل مؤسسة، وفي كل بيت، تقريباً.

لم يعد هناك من يسعى إلى تطوير ذاته وملء فراغاتها بهدف تحقيق وجوده الخاص الممتلئ به - أياً كان شكل هذا الوجود؛ الجميع منشغل بتعطيل (المنافسين الافتراضيين) وعرقلتهم عن تحقيق أهدافهم؛ فإذا كان من الصعب أن تبني نموذج نجاحك الخاص، فما أسهل أن تبني نجاحك على انتقاد وهدم الآخرين، فعلى الأقل لن تبدو خائباً إذا كان الجميع كذلك! 


في ظني أن الأمر مردّه إلى طريقة التربية بالمثل الأعلى أو النموذج الأفضل؛ دائماً هناك مرجعية مطلوب من الطفل أن يكون مثلها، لا نعامل الأطفال باعتبار كل منهم نموذجاً مستقلاً بذاته، بل نريد منهم أن يكونوا تجارب في محاولاتنا لاستنساخ النموذج الأعلى.

النموذج الأعلى- بهذه الصيغة - هو قالب يشبه القوالب التي تستخدمها المطابع لتشكيل الأوراق والملصقات؛ فبعد أن تتم طباعة الملصق، يتم تشكيل إطار من الأمواس على الشكل المطلوب، ثم يقوم عامل المطبعة بضغط كل ورقة عليه للحصول على الشكل الذي يريده الزبون. 



والتربية والتعليم -وفقا لنظرية النموذج الأعلى- هي عملية طمس ملامح التفرد والخصوصية لدى الأطفال، فإذا كانت الشخصة المثالية في المجتمع هي شخصية الولد المؤدب المهذب المطيع الذي يحفظ دروسه ولا يناقش مدرسيه، فإن الطفل الذي يمتلك قدراً من العقل الناقد يصبح مطروداً من رحمة المجتمع، والطفل الذي يعُمل ذهنه وفقاً للأفكار -وليس المعلومات - يصبح بليداً لأنه لا يستطيع حفظ واسترجاع القدر نفسه من المعلومات، وإن كان أكثر مهارة في شرح الفكرة العامة واستخدامها عملياً، إلا أنه يظل فاشلاً وفقا للنموذج الأعلى.



وفقاً لنظرية النموذج الأعلى فإن الطفل -لكي ينال الرضا- عليه أن ينجح في الاستمرار ضمن فريق الأوائل الذين تدور بينهم منافسة حادة يتبارى المعلمون في اختراع آليات لإبقاء جذوتها مشتعلة، تحت وهم أنومشاعر الغيرة هي الجو الأفضل لتحفيز الطلاب على التقدم، غير منتبهين إلى أنهم يتخلون عن دورهم كمعلمين ويتحولون إلى دور (عامل المطبعة). 



وفقاً لنظرية النموذج الأعلى، ينحصر الاهتمام في مجموعة قليلة من أطفال الصف، يتعلمون كيف يُكنون الكراهية لبعضهم البعض، يسعى كل منهم إلى أن يحتل موقع الآخر، قبل أن يتعلم كيف يكون (نفسه) في أفضل صورها. 

لا يتعلم الطفل آليات البحث عن نفسه وتدريبها، لأنه مشغول بأن يكون دائماً من بين الأوائل إن لم يكن الأول، أما من هم خارج دائرة الأوائل الحافظين لدروسهم، المسترجعين لمعلوماتهم، المؤدين لفروضهم المريحين لأساتذتهم، فإنه مصنف طالباً من الدرجات الأدنى على سلم، قياسه النموذج المثالي، من دون أدنى انتباه إلى قدرات هؤلاء الأطفال ومهاراتهم الخاصة ومواهبهم، وهو أمر يطمس الشخصيات ويِخيب الآمال، فإذا كان الطالب الشاطر في (الحساب) هو من يتمكن من حل المسائل الحسابية بالطريقة التي لقنته إياها معلمته، فهل نأمل في أن نكتشف طريقة أخرى للحل- ربما تكون مبتكرة- إذا ظلت مقموعة في عقل طالب يخشى أن يتم تقريعه وفقاً لمنطق نموذج أقنعه بأنه (بليد) وليس له الحق نفسه الذي يحظى به الطالب (الشاطر)!. 

نظرية النموذج الأعلى هي المسؤولة عن سيادة النمطية وتراجع الإبداع، لأنها تُقدس الرواد، ولا تضعهم في إطارهم التاريخي المناسب، بل تحولهم إلى (نموذج أعلى). هي المسؤولة عن الخوف المرضي من التغيير الذي يحصر أمان الناس فيما يعرفونه؛ فلا داعي اذن للمغامرة واكتشاف الجديد، فهل ترك السابقون للاحقين شيئاً! 

هي السبب الرئيس في سيادة الفكر الماضوي والتيارات السلفية، وهي المسؤولة عن تطرف أصحابها في الاقتداء بنموذج أعلى يعفيهم من التجربة والخطأ ويقيهم شر مخالفة الجماعة أو مخاطر التفكير خارج النمط.

نظرية النموذج الأعلى هي الرحم الذي خرج منه كل هؤلاء، وأشدهم خطراً الآن ذلك الإعلامي الذي لا يملك من مقومات النجاح شيئاً سوى التفنن في سب وقذف وتعرية الآخرين. 

أما لمن يتساءلون عن البديل لنظرية النموذج الأعلى، هل فكرتم في نظرية (تجاوز الذات)؟ لا يعرف متعة الدأب على تطوير النفس ورياضتها من أجل بلوغ هدفها من اعتقد أن النجاح هو تعطيل المنافس عن الوصول.