الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 / 18:31

الباجي قائد السبسي: الرجل الذي استجاب لنداء تونس

عندما استلم إدارة الدولة رئيساً للحكومة التونسية في بداية الاستقلال، بادر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بتشكيل فريق عمله الخاص من مستشارين ومساعدين مرشحين للعب أدوار أولى في إقامة الدولة الحديثة، التي ترهلت سنوات طويلة تحت الحكم الحسيني الذي استمر منذ 1750 في إطار السلطنة العثمانية، تخللتها ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال الفرنسي بين 1881و1956.

وكان بين الفريق الذي تصدى للمهمة الجسيمة، محامٍ شاب، أنهى دراسته في باريس قبل أشهر قليلة، وضمه الزعيم بورقيبة إلى فريقه في 1957، ليرتبط "الشاب" الأزرق، عديم الخبرة والتجربة، كما يقول عن نفسه بعد أن تجاوز 80 حولاً، جزءاً أساسياً في المشهد السياسي التونسي، حتى سنوات بن علي الأولى في الحكم.

من مكتب بورقيبة رئيس أول حكومة، إلى مكتبه في قرطاج بعد أن تصدى لرئاسة الجمهورية بعد قيامها في يوليو (تموز)1957، إلى قائمة لا تحصى من الوزارات والسفارات والمهام الخاصة السرية منها والعلنية، قبل أن يُحال مضطراً في بداية التسعينات من القرن الماضي، على التقاعد الوظيفي، ولكن ذلك لم يمنعه من المساهمة الفاعلة في بناء تونس الجديدة، وإقامة بنيانها حجراً بعد حجرٍ.

اليوم يبدو"الأزرق" طري العود في طريقه لاستكمال الرحلة الشاقة وكأنه جزء منها، أو هي العنصر الذي يكمله، وبعد فوز الحزب الذي نحته من الركام والخراب الذي خلفته انتخابات أكتوبر(تشرين الأول) 2011، بعد سطو الإخوان ممثلين في جناحهم التونسي على المجلس التأسيسي، وانهيار الأحزاب التقليدية التاريخية منها والمستحدثة بعد سقوط بنظام بن علي، يثبت الرجل أن مسيرته الشخصية لم تنفصل كثيراً عن مسيرة الدولة التونسية الحديثة، ذلك أنه وبعد أن لعب أدواراً متفاوتة الأهمية وأحياناً الخطورة في دولة الاستقلال، ثم في دولة التنمية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ودولة العلاقات الواسعة والمتوازنة مع دول العالم وشعوبها، لم تجد الطبقة السياسية التي تورطت في الإمساك بجمر السلطة بعد فرار بن علي، وتنحي محمد الغنوشي في أشهر النار التي تبعت زلزال 2011، غير الباجي قائد السبسي، لتولي قيادة السفينة التونسية المنهكة في محيط شديد الاضطراب، فخرج الرجل من "معتكفه" بعد أن حبّر كتابين أو ثلاثة، قبل ذلك بقليل، ليحاول ترميم ما يمكن ترميمه في الداخل والخارج، فانتقل من الأمم المتحدة إلى البيت الأبيض ومنها إلى قمة دوفيل لدعم ما بدأ ثورة ياسمين تونسية، ليتحول فجأة بعد أن انفتح الجحيم على أحداث ليبيا ومصر ثم سوريا وبينهما اليمن، على إعصار غير مسبوق عصف بالمنطقة.

وبعد سنة أو تكاد من حلول ركب النهضة بقصر الحكومة في تلة القصبة في قلب العاصمة التونسية يتقدمه زعيم النهضة راشد الغنوشي ومريده حمادي الجبالي، ليتسلما أمانة أول حكومة تونسية تتشكل بعد الانتخابات التي جرت قبل أشهر، ولم يصدق التونسيون أنفسهم وهم يتابعون شلال المديح والثناء الذي كالته "قيادات" النهضة للباجي، ولا عدد القبلات والعناق الذي ودع به رئيس الحكومة سلفه المبجل، ليغادر كما قال إلى بيته وأحفاده، ولكنه لم يعتدل بعد في جلسته في السيارة التي كانت في طريقها إلى بيته لتنفجر النهضة وحلفاؤها باتهامات في حق الرجل الذي ورطها وورط البلاد بعد أن أمضى سلسلة قرارات تتعلق بالرواتب وتحسين ظروف عيش المواطنين ومشاريع تنموية ضخمة تكفلت جهات دولية وإقليمية بتمويلها لدعم تونس.

زعيم نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية في تونس، شخصية "تاريخية" صحيح، بئر من الخبرة في البناء والتشييد وهذا صحيح، بدليل نسجه لتحالف واسع عدداً وتكويناً في ظرف لم يتجاوز سنتين، ولكنه أيضاً علم واسم مميز في تونس، فهو الباجي نسبة وتيمناً بالراقد في جبل المنار، أو سيدي أبي سعيد الباجي، أحد أشهر وأكبر علماء تونس المسلمة منذ القرن الثالث عشر، وأحد أبرز إعلام الإسلام التونسي المعتدل المتوازن والمنفتح والمتفاعل مع الغير ومع العصر.

وفي اسمه أيضا، قيادة وريادة، وهو قائد السبسي، فالقائد الذي نجح في معركة الانتخابات الحاسمة بعد هذه الفترة القصيرة وبعد بناء وصياغة صرح سياسي جديد اختار له نداء تونس، وفي النداء أكثر من معنى ودلالة وفي استجابته السريعة لهذا النداء، الذي انصرفت عنه النهضة والطبقة السياسية الجديدة التي تناسلت تحت عباءتها، جهلاً أو صمماً، كان سباقاً في الوصول إلى الجائزة الكبرى، إنقاذ تونس من الدوامة التي تردت فيها منذ 2011، وسباقاً أيضاً في إيقاظ ضمائر واستنهاض همم قطاعات واسعة تفصلها مساحات أوسع عن بعضها البعض أحياناً بين يساريين ونقابيين ويمينيين ومستقلين ودستوريين سابقين أو حاليين، حداثيين وتقليديين من مدن الساحل الغني والمدن الداخلية التي أشعلت فتيل الاحتجاج على نظام بن علي السابق.

ولا يكتمل الرجل أخيراً إلاً بالسبسي، ويقال إن قائد السبسي كان المشرف في قصر الملك، باي تونس منذ القرن الثامن عشر وحتى قبله، عن إعداد السبسي، أو عدة التدخين عندما كان التدخين امتيازاً أو وقفاً على علية القوم، الذين يشربون التبغ، وفق طقوس مميزة سمتها الحكمة والارتفاع وبعد النظر، وإذا كان الرجل فخوراً كما يقول بأصوله، ربما يحق له اليوم وهو الذي بلغ من العمر عتياً أن يمارس طقس الحكمة وبعض الدعة، مجازاً بما أنه رفض على امتداد عمره المديد التدخين، فبعد أن تجاوز حزبه النهضة وحلفاءها رغم تسخير جهاز الدولة والإدارة بطرق مختلفة ومتنوعة للفوز بالانتخابات الأولى من نوعها في تونس، يتصدى الرجل إلى ردّ التحية ربما لصاحب الفضل الأول في مسيرته السياسية الحافلة، الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، بالتصدي لرئاسة الجمهورية، خلفاً لأستاذه الكبير، في حركة أخرى يثبت فيها "الأزرق"، صاحب العيون الزرقاء الصافية، أنه أزرق اليمامة، فبعد تشكيل الحزب أمن له الفوز الانتخابي، لم يتقدم لرئاسة الحكومة، أهم منصب سياسي في تونس الجديدة ونظامها الأقرب إلى البرلماني منه إلى الرئاسي، وترك الأمر حتى قبل الانتخابات، للقيادات الأخرى الأصغر سناً والأقدر على تحمل ثقل المسؤولية، فيتفرغ إلى دور أقلّ استنزافاً وأكثر "نظرية" رئاسة الجمهورية، ليكمل عقد النداء الثمين، وعقده مع مواطنيه، رئيساً لتونس الجديدة، لكنه أقرب منه للرئيس الشرفي بحكم محدودية صلاحيات المنصب، منه للرئيس الواسع النفوذ المنافس للحكومة، وليواصل من موقعه، ما أمكنه وما امتد به العمر، حكيماً مثل مدخني "السبسي" قديماً يوظفه خبرته السابقة والحالية لضمان احترام الدستور والمؤسسات، ويقف سداً منيعاً ضد التطرف والإرهاب، مدعوما بناخبيه وبرضاء الشيخ الكبير الذي يحمل إسمه، سيدي أبي سعيد الباجي الراقد في قبره في القرية المرتفعة المسماة، سيدي بوسعيد، والمطلة على قصر قرطاج، مقر الرئاسة القابع عند أقدام التلة السياحية الأشهر في تونس.