الإثنين 18 يوليو 2016 / 19:01

الدمى.. صورتنا الأخرى

يلحظ زائر متحف الدُمى في العاصمة التركية إسطنبول الكثير مما يلفت انتباهه، هذا المتحف الذي أسسه شاعرٌ تركيٌّ حداثيٌّ يدعى "سوناي أكين" من مواليد 1962م، والذي كان ينشد التغيير الدائم في الحياة، لاكتشاف الجديد والمختلف.

أسس متحفه هذا لإيمانه بأن دمى الأطفال سببٌ رئيسي في كل قراراتنا المصيرية من بعد البلوغ. أليست الدمى قابعة في وجدان كلٍّ منّا؟.. تتراكم علينا خيالات القصص على شكل صورة إنسان أو حيوان أو عربة، نلعب ونتفاعل مع هذا الكائن المصغر، ليمضي بنا وبضميرنا ووجودنا بقوى الباطن نحو الخلق والتغيير.

حاول "سوناي أكين" عبر ما أبدعه أن يؤسس لذائقة جديدة في شعره، كما فعل قبله بنصف قرن الشاعر التركي "أورخان ولي قانيق"، صاحب "مذهب الغريب" أو "حركة غريب" في بداية القرن العشرين حين قرر تغيير الشعر التركي وتخليصه من كل قوالبه وعوالقه الماضية. لم يُرِد له وزنًا أو قافية، ولم يجعله رباعيات، بل اختاره شعراً حُراً يلامس شغاف المتلقي البسيط، مستخدمًا المحادثة والكلمات الشائعة والمتداولة بين الناس على الرصيف بإحساس عالٍ دون إسفاف أو تسطيح، جاعلاً التمرد لا القول المبتذل أساس شعره. وقد كان هدفه إيصال هذا الأدب الجميل للجميع دون استثناء. فالإشراق كان يملأ قلبه، لكن السؤال، بأي دمية كان يلعب هذا الشاعر في طفولته؟ ممَّ كانت دميته مصنوعة؟ أمن القماش أم من المطاط، من الفخار أم من الخشب، من الطين المفخور أم من البلاستيك؟ وكيف كان تفاعله مع لعبته؟
هل كانت لعبته على هيئة إنسان أم حيوان أم طير؟ حتى لقد سكنت وجدانه ومنطق التغيير عنده، ونجح في مسيرته بكل شجاعة رغم إساءة مؤيدي المدرسة الكلاسيكية الشعرية له.

الحقُّ إن الإنسان لَمْ يعجز من التغيير منذ أن بدأت الحياة على هذه الأرض، فلولا التغيير لم تنشأ الأفكار ولا المذاهب أوالرؤى، ولم يتطور العالم، وها نحن في حالة تغيير مستمر، بعد كل التحولات الماضية، أصبح لكل إنطلاق محطة، نقف عندها لنتأمل من يقودها، كيف هي طفولته؟ وما شكل لعبته؟

الدمى في المتحف بكل أشكالها الفنية وما توحي به من تجليات فكرية ومهنية ونظرية، فضلاً عن السمات الحربية العنيفة والبشعة أحياناً، المرفهة والمدللة في أحيان أخرى، تُربينا وتخلق في دواخلنا كوادر إبداعية، فمعظم ما يمارسه الإنسان في الحياة هو تجلٍّ لدمى نُشكلها لتُشكلنا، لذا يذهب البعض الى الاعتقاد أن الإنسان دمية كبيرة معلّقة، إن لم يكن مبدعاً خلاقاً سيتَصرف فيه الآخرون يحركونه وفقًا لمشيئتهم.

في المتحف وخلال العبور بين آلاف الدمى، يأخذك التفكير بحالك أو بحال من نعرفهم، فبعض الألعاب ذكية جدًا وملهمة، بكل ما في خاصية الإلهام من جمال وأفضلية.. هناك تتذكر لِمَ إستخدم باراك أوباما كلمة "التغيير" كثيرًا في خطاباته أثناء حملاته الإنتخابية، باعثا بخيال من ينتخبه إيحاءً يحضُّه على الاستمرار، والإيمان بالمستقبل، إذ المغيِّرون يتحكمون بمزاج المتأثرين بهم، لكن لا نشك أن هؤلاء الذين يقودون هذا التغيير منتقَدون أيضًا، إذا لم يتم قبولهم.

الشاعر الشاب سوناي أكين صاحب فكرة متحف الدمى للأطفال، ثائرٌ فيما يقدم من أفكار أدبية أسوة بأورخان الراحل، فالدمى سبيله للإلهام، لذا يقدم شعره بشكل ناعم مع سخرية وتورية، فهو لا يمانع من فكرة وقوف الشاعر بكامل أناقته في السوق وبين الناس يبيع دواوينه الشعرية.

يفخر أكين بمتحفه، حيث مَكْمَن التغيير الداخلي، متحف جمع فيه أكثر من 7000 آلاف دمية من جميع أنحاء العالم، بعضها دمى تاريخية تعود إلى قرنين من الزمان، عرضهم بشكل موثق كأنها أجدادنا ينظرون إلينا مُعاينين كيف أصبحنا نعيش؟..

من الدمى يخرج الخيال الواسع وأُسس التغيير الإجتماعي.. متحفٌ عميق، ليس فيه إشكالية الشك كغيره من المتاحف، التي تبدو بعضها وكأنها تعرض فكرة بسيطة ليست سوى مادة لاعلان تجاري لايقوم على أي عمق تغييري.