برنت تارانت، منفذ الهجوم على المسجدين في نيوزيلندا (أرشيف)
برنت تارانت، منفذ الهجوم على المسجدين في نيوزيلندا (أرشيف)
الأربعاء 20 مارس 2019 / 20:19

فائض تاريخ وفائض هويّة

"برنامج" تارّانت، يقوم على إرجاع العالم إلى ما كان عليه وما ظنّنا أنّه تجاوزه. إنّها مهمّة سبقه إليها القادة الشعبويّون والقوميّون الذين تكاثروا في الآونة الأخيرة

برنتون تارّانت، الإرهابيّ الأستراليّ الذي ارتكب مذبحة مسجد النور ومركز لينود الإسلاميّ في نيوزيلندا، ترك لنا "بياناً" لا تحول ركاكته وتهافته دون رؤية مضمونه وخطورة ذاك المضمون: إنّه فائض تاريخ وفائض هويّة. مَن يقرأ "البيان" يخال أنّنا نعيش في عالم سحيق من صراع الأديان والهويّات الأوليّة. في عالم من الحرب الدائرة والمتواصلة التي تشطر هذا الكون على نحو لم تغيّره الهجرة ولا التعارف ولا التثاقف ولا المصالح ولا التقدّم العلميّ أو التقنيّ. هذه الحرب، مثل كلّ الحروب، لا تُحسم، في نظر صاحب "البيان"، إلاّ بالعنف على النحو الذي ارتكبه هو نفسه.

"برنامج" تارّانت، بالتالي، يقوم على إرجاع العالم إلى ما كان عليه وما ظنّنا أنّه تجاوزه. إنّها مهمّة سبقه إليها القادة الشعبويّون والقوميّون الذين تكاثروا في الآونة الأخيرة، لا سيّما مع المناخ المسموم الذي كانت الهجرات المليونيّة ذريعته وشرارته.

لكنْ متى سمعنا للمرّة الأولى بهذا "البرنامج"؟ متى كانت لحظته التأسيسيّة؟
أغلب الظنّ أنّ بدايته كانت مع فتوى آية الله الخمينيّ بحقّ الروائيّ البريطانيّ، الآسيويّ الأصل، سلمان رشدي. حدث ذلك قبل ثلاثين عاماً بالتمام، مُطلقاً بين بعض المسلمين الآسيويّين في بريطانيا موجة غضب غير مسبوق، موجةً عبّرت عن نفسها في طقوس الحرق الجماعيّ لكتاب رشدي "آيات شيطانيّة". آنذاك بدا أنّ الهويّة التعدّديّة البريطانيّة تنشطر إلى هويّات على خطوط الانقسام الدينيّ والإثنيّ، وأنّ تلك الهويّات، الضاربة في تاريخ الحروب والمنازعات، لا تُعالَج تناقضاتها بالديمقراطيّة، بل لا تُعالَج إلاّ بالمواجهة الشاملة. وبالفعل نجح الخميني في جرّ العالم إلى تلك الحفرة: فجزء كبير من سياسات البلدان – الغربيّة والمسلمة على السواء – صارت محكومة بمسألة رشدي. التعبير الهويّاتيّ العنيف شرع يتعولم.

ما بين ذاك الحدث وصعود "قاعدة" بن لادن ثمّ صعود "داعش"، كانت المذابح التي حصلت في الاتّجاهات كلّها واستهدفت الجميع، وطالت مدن الأرض بمسلميها ومسيحيّيها ويهودها وسواهم. وأخيراً جاءت مذبحة نيوزيلندا والمذبحة الأصغر حجماً في أوتريخت بهولندا، لتكرّسا حقيقتين لا تقبلان اللبس: الأولى، أنّ قوى التاريخ والهويّة تخوض معركة بقائها وفنائها في مواجهة الجديد والمستقبل. الثانية، أنّ هذه المعركة ليست سهلة لأنّ قوى الماضي تخوضها بدمويّة قصوى، ولأنّ كسبها يستدعي تحوّلات ومواقف تطال الأفكار والثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع معاً. والسياسيّون، في هذا، ليسوا سواسية كأسنان المشط. فهناك مثلاً رئيسة حكومة نيوزيلندا العمّاليّة جاسيندا أرديرن التي أبدت تعاطفاً عميقاً مع الضحايا وشجباً قاطعاً للمرتكبين، وعبّرت عن ذلك باستهلال جلسة البرلمان النيوزيلنديّ بآيات قرآنيّة، احتراماً لحقوق الضحايا ولثقافتهم، فضلاً عن المسارعة إلى علاج الوجه التقنيّ للمسألة ممثّلاً بـ "حقّ" امتلاك السلاح.

 وهناك، في المقابل، قادة شعبويّون يلعبون بنار الهويّة والتاريخ الفائضين، يتصدّرهم دونالد ترامب، ويخوض معركتهم قادة كرجب طيّب إردوغان. لقد رأى هذا الأخير في الجريمة فرصته لكسب الانتخابات المحلّيّة في بلده عبر نفخ "الحرب على تركيّا والإسلام"، والتعبئة على هذه القاعدة.

والكلّ مطالَبون بأن يختاروا بين نهجين، واحد يؤكّد على الجامع الإنسانيّ بين ثقافات وأديان وأعراق تتشكّل منها حضارتنا، وتمضي بها إلى الأمام، وآخر يؤكّد على الفوارق "الجوهريّة" لحضارات متصارعة يدفعها كره الحاضر إلى بناء الجدران والمكث في الماضي واستعادته على شكل دمويّ.