الأربعاء 5 مارس 2014 / 09:18

آه وآه ويا فرحة قلبي

كانت لدي مشكلة في كل مرة أستمع فيها لأغنية أحمد منيب "آه وآه ويا فرحة قلبي.. كنت طير وصبحت مراكبي".. فأسأل نفسي ماذا كان يقصد العم فؤاد حداد بهذا التشبيه؟ ما الذي كان يدور في باله عندما شعر بالفرحة لأنه تحول من طير لمراكبي؟

سنوات وأنا أطارد نفسي وأصدقائي المثقفين بالسؤال دون إجابة شافية، واليوم وأنا أحمل طفلتي المتيقظة بوحشية بعد الفجر بقليل في البلكونة، محاولاً منح أمها فرصة للنوم، وبينما أغني لها هذه الأغنية التي هبت في عقلي من دون مقدمات، عرفت الإجابة، فقرأت الفاتحة في سري للعم منيب والعم حداد.

"كنت طير" أيام العزوبية محلقاً من شجرة إلى أخرى، ومن سطح بناية إلى ناصية حقل، و"صبحت مراكبي" أتحمل مسؤولية شخصين معي على القارب نفسه في بحر الحياة، كل حلمي أن أحملهما إلى الشاطئ الآخر بسلام، أما عن فرحة قلبي بهذا التحول فيا لها من فرحة على مقاس القلب، فلم أعرف في حياتي كلها عملاً أنبل من مساعدة شخص غريب في عبور الطريق، فما بالك بمن تحبهم؟ كنت أتمنى أن يكونا منيب وحداد على قيد الحياة لأهاتفهما فجراً قائلاً: "الآن فهمتكم".

بعد شهور من مولد ابنتي وقدرتها على وضع يدها على الأشياء أصبح البيت يمتلئ بالبصمات، كأنه مسرح جريمة، هي مريبة بلا شك، أو ربما أنا المختل نفسياً، حيث أرى أن الأسوأ من بكائها المزعج هو صمتها التام، أتعجل لحظة نطقها الكلمات، وأنا أعرف مقدماً أن الثرثرة الفارغة ستهلكني قريباً.

تعلمت من عشرتها أن "الأطفال بينوروا البيوت فعلاً" لأنهم يكرهون النوم في الظلام، وتعلمت أنك لست بحاجة لامتلاك منبه ما دمت تمتلك طفلاً، فمن الثابت علمياً أن اللي خلف ما نامش.. أكاد أجن من الذين يقولون على من ينام بعمق إنه نايم زي البيبيهات، أقطع دراعي لو كان عندهم أطفال أصلاً، وتعلمت أن "التسنين" هو أفضل تشبيه للمرحلة التي نعيشها كلنا هذه الأيام.. انفعال مستمر وصراخ بلا توقف، وضجر وارتباك لا حل له سوى انتظار انتهاء المرحلة بشكل طبيعي وتدريجي.. مصر "بتسنن" ولا حيلة أمامنا سوى أن نتحمل بعض جميعاً حتى تمر الأمور بسلام.. عندك حل تاني؟

عموما أسأل نفسي لماذا تبدو مغرمة بمص أصابعها طوال الوقت، أمها تقول لأنها "بتسنن" طبعاً وأنا متأكد أنها تحاول أن تجرب طعاماً جديداً بعد أن ملت الطعام نفسه الذي تعيش عليه منذ أن جاءت إلى الحياة.. صحيح أن مافيش أحلى من "لبن الأم"، لكن بعد عدة أشهر من طعام واحد أكاد أشعر بها وهي تهتف "أم اللبن".

أما الزوجة كان الله في عونها، فهي تعيش معها مرحلة "العناية بالطفل تبدأ من أسفل إلى أعلى"، بخلاف أنها تعاني من عدد 2 فم كلاهما جعان وبيزن طوال الوقت، لذلك عندما قالت لي زوجتي: "عايزين ناخد أجازة" أرسلتها إلى حماتي مع الابنة، لكنها غضبت مني، ربما لم أكن أجيد فهم طلبها.. كل ما أفهمه أنها تعمل أماً وزوجة وعندما تطلب إجازة فهذا يعني الحصول على إجازة من إحدى المهنتين ما لم يكن من كلتيهما.

نتلصص عليها أنا وزوجتي وهي نائمة لنعرف تشبه من فينا أكثر؟ في كل مرة تشبه واحداً منا، بمرور الوقت خلصت لنظرية صارحت بها زوجتي قائلاً: "ما دام البنت كل يوم شبه حد فينا من غير ملامحها ما تتغير.. يبقى أكيد أنا وأنتي شبه بعض أصلاً"، عندما استشعرت زوجتي في النظرية إهانة لها لم تترد في التعبير عن غضبها، فقلت لها: "بصراحة إنتي لازم تاخدي أجازة". كلما نظرت إليها وهي نائمة، أشيل هم مرحلة قادمة اسمها مرحلة "احكي لي حدوتة يا بابا" فأنا روائي فاشل تماماً، وحكاياتي لا تناسب الأيام التي نعيشها، فأمنا الغولة لم تعد مرعبة مقارنة بأمنا البلطجية والسندريلا ستبدو ساذجة في عيونها وهي تتأملها تجري بفردة حذاء واحدة، لن أستطيع أن أقنعها لماذا اشترطت عليها الساحرة أن تغادر الحفل قبل الثانية عشرة إذا كنت أنا وأنا كبير أهو مش فاهم ليه الإخوان اشترطوا أن ينصرفوا من الميدان قبل حلول الليل، سيبدو الرجل "أبو رجل مسلوخة" أقل إثارة للريبة من "الراجل اللي ورا عمر سليمان"، سأتحاشى الحكايات وسأكتفي بتوجيه النصائح على الرغم من إيماني التام بقاعدة تقول أن نظريات الآباء ونصائحهم ضد قاعدة سرعة الصوت، فما يقوله الأب الآن لا يصل إلى أسماع ابنه جيداً إلا في سن الأربعين.

كنت طيراً ما إن يستقر حتى يرحل وأصبحت مراكبي ما إن بدأت رحلته حتى شعر بالاستقرار.

كان الواحد يؤمن في طفولته أنه عندما يكبر سيعرف إجابات عن كل الأسئلة التي تدور في ذهنه. أجمل ما في الأبوة أنك ستعرف فجأة الإجابات كلها، لكنك ستجد مشقة في معرفة "هيه الأسئلة كانت إيه".