الخميس 6 مارس 2014 / 10:11

العرب وأوكرانيا

دعونا نتصور أن أزمة كبرى وقعت ليس في أوكرانيا، بل في واحدة من جمهوريات البلطيق السوفياتية السابقة الثلاث، وأن الوضع هناك تدهور وبلغ حافة الحرب. كيف سيتابع القراء والمشاهدون العرب الأزمة تلك، وكيف ستُنقل إليهم، وما هي الوسائل التي سيستخدمونها لبناء مواقفهم واستنتاجاتهم؟

لنقل أن الدولة البلطيقية هي ليتوانيا التي تتشارك مع أوكرانيا في عدد من السمات التاريخية لناحية علاقتها المتوترة مع روسيا وسعيها إلى الابتعاد عن نفوذ موسكو وحرب العصابات التي ظلت ناشطة في ليتوانيا ضد الاحتلال السوفياتي حتى العام 1952، إضافة إلى عدد من وجوه الاختلاف، مثل الدور الكبير الذي أدته السويد وألمانيا في تشكيل هويتها وثقافتها. بيد أن ذلك لن يمنع ظهور عدد كبير من المقارنات، المتينة والهشة، لوضع ليتوانيا مع الوضع في هذا البلد العربي أو ذاك.

وضربت الاضطرابات في أوكرانيا جملة من الاوتار الحساسة عند المهتمين العرب. جاءت الأحداث هناك لتقع تماماً على فالق الانقسامات العربية الحالية.

وسهّل أداء روسيا دوراً محورياً في الصراع الأوكراني لتكمل منظومة الإسقاطات العربية: موسكو تؤيد النظام الديكتاتوري الفاسد لفيكتور يانوكوفيتش مثلما تساند نظام بشار الأسد. الأوكرانيون منقسمون عرقياً ولغوياً مثل السوريين واليمنيين واللبنانيين والعراقيين والليبيين. الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبعد كلمات حماسية ومسانِدة للشعب الأوكراني، لم يقدما ما يساعد "الثوار" في كييف على رد غائلة التهديد والتدخل الروسيين اللذين يبدوان ملموسين وحاضرين جداً مقارنة بلفظية غربية فارغة وبعيدة. الاستبداد الشرقي الروسي يحرز المزيد من النقاط في منازلته للديموقراطية الغربية. اختلال هائل في موازين القوى العسكرية والاقتصادية لمصلحة المناهضين للثورة وحلفائهم الخارجيين.

الأزمة الليتوانية المتخيلة والأوكرانية الواقعية، قابلتان لأن تعالجا في وسائل الاعلام العربية وفي آليات صنع الرأي العام عندنا (من شبكات اجتماعية وسواها) بذات الطريقة على ما يبدو. ذلك أن الأدوات المعرفية - إذا جاز التعبير- تظل مهيمنة على أساليب التفكير والتحليل ما ينتهي إلى إنتاج المواقف والخلاصات نفسها بل حتى بالتعابير المتطابقة. يميز هذه المقاربة افتقار عام ليس إلى الاطلاع على تاريخ وجغرافية وثقافة أوكرانيا وبناها الاقتصادية والاجتماعية والتحديات التي مرت بها منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، بل خصوصاً جاهزية الصورة النمطية مسبقة الصنع والإعداد عن أزمات العالم ومشكلاته، وهي صورة سرعان ما تعمم وتنتشر في وسائل الإعلام العربية وتصبح جزءاً من "الوعي" العربي بالعالم المعاصر.

ترجع العلة في ذلك، جزئياً، إلى الفوات الكبير الذي تعيشه العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي وعدم قدرة الاوساط الأكاديمية المعنية بها على نقل معارفها إلى الجمهور العربي الواسع. وليس صدفة أن تكون "نظرية المؤامرة" الشهيرة هي الوسيلة الأولى التي يلجأ اليها المواطنون العرب في تفسير وتشريح وتفكيك الظواهر والحوادث من حولهم، ذلك أن أدوات التحليل العلمي والموضوعي محاصرة في بعض المعاقل الاكاديمية بل وتتعرض كل محاولات نشرها وتعميمها إلى حرب ضروس يشنها مروجو الوعي الغيبي الظلامي والمتاجرون به.

عليه، تبدو أزمات العالم وحروبه كتكرار لا يتوقف لخطط قديمة بين إمبراطوريات يديرها اشرار هدفهم الأخير إبقاء العرب والمسلمين في كهوف التخلف، مع ما في هذا التصور من تسليم مسبق بمنطق الكهوف ولاعقلانيتها. فتتشابه الثورات العربية مع الأزمة الأوكرانية مع واحدة افتراضية في ليتوانيا. وتصبح العائلة الحاكمة في كوريا الشمالية مثلها مثل حكام الجمهوريات الوراثية التقدمية العربية.

ورغم وجود تشابهات لا تخطئها العين ولا يصح إنكارها، إلا أن واحداً من أسس المعرفة الموضوعية تقوم على التفريق الصارم والدقيق بين الحالات المختلفة كمقدمة ضرورية ليس لتعيين الفوارق بينهما فحسب، بل أيضاً لإدراك المكونات الحقيقية للواقع المعاين، اذا أراد المتابع التأسيس لمستقبل أفضل له ولأبناء وطنه.

في بداية الثورات العربية، درجت طرفة عن تكرار الرؤساء الذين يطاح بهم لجملة واحدة تقريباً هي أن بلدهم غير البلد الذي سبقه رئيسه إلى السقوط. وان "مصر غير تونس" ثم "ليبيا غير مصر وتونس" ثم "اليمن غير ليبيا ومصر وتونس" إلخ... في الحقيقة أن كلام الرؤساء هؤلاء صحيح. فكل بلد تختلف ظروفه عن جيرانه. لكن تشابه ظروف القمع والقهر والتراكمات في مجالات الاجتماع والسياسة كان أكبر من الاختلافات. هنا يصح الحديث عن المقارنات والتشابهات والتفاعلات المتسلسلة بسبب جملة من العوامل تمتد من الماضي إلى الحاضر. بكلمات ثانية: إن التفكير والتحليل القائمين على أساس المقارنة العلمية لا يعيقهما تشابه الظروف في منطقة ما. لكن هذا شيء وبناء صورة نمطية عن الأحداث العالمية شيء آخر تماما.ً