الثلاثاء 19 مارس 2024 / 15:12

"العتاق".. مجلس عالمي للخيل العربية

بينَ عِتاقِ الخَيلِ وَالعَتائِقِ
فَعُنقُهُ يُربي عَلى البَواسِقِ
هكذا وصف شاعر العربية الأول أبو الطيب مُهره العربي الأصيل. والعتاق من الخيل: الكرام؛ والإناث عتائق؛ والجواد العتيق هو من ينحدر عن أسلاف من كرام الخيل العربية وكريماتها؛ فالمقصود بالعتق عند العرب سلامة الفرس العربي من الهُجْنة، ومن الاختلاط بالأجناس الأخرى.
والخيل العتاق، كما جاء في معجم المعاني الجامع، هي النجائب. والنجيب هو النفيس على غيره، الخالص من الشوائب.
ويَعجب من يقرأ تراث العرب حين يقف على مدى عنايتهم بتصنيف أوصاف الخيل العتاق، وحفظها، وتوثيقها، والحرص على نقلها إلى الأجيال، وكيف أنهم انتقوا بدقة كل مفردة يستخدمونها في الوصف والتعبير.
ويذهب الغرناطي الأندلسي إلى أن العرب أعلم الناس بالخيل، ويقول في مؤلفه "كتاب الخيل- مطلع اليمن والإقبال في انتقاء كتاب الاحتفال واستدراك ما فاته من المقال": "أما علمُ العَرب بالخيل وصفاتها، وما يُحمد أو يُذَمُّ من ألوانها وشياتها، واطلاعهم على أخلاقها وشمائلها وما تعرَّفوه من فراستها ومحايلها، فلا أعلم أمة سواهم من الأمم المشهورين، فضلاً عن غيرهم، وصل من علم الخيل إلى تلك الغاية ولا بَلَغَ من معرفة أحوالها إلى تلك النهاية".
وقد وصفت العرب الخيل فأفصحت وأكثرت وأوضحت، وقد جمع الغرناطي، في كتابه المذكور، الكثيرَ مما ورد في قصص العرب وحكمهم، وأشعارهم، وأمثالهم...، ثم صنع منها تلخيصاً جامعاً لوصف الفَرِس العتيق، جعله في خمس عشرة صفة: "... أن يكون بعيداً، قريباً، طويلاً، قصيراً، عارياً، ضخماً، عبلاً، رقيقاً، غليظاً، لطيفاً، ضيقا، مُولَّجَاً، عريضاً، رحيباً، حديداً"، وفسر كل صفة من تلك الصفات في فقرات مطولة شارحة، موضحاً المقصود بكل صفة، كأين يكون البعد والقرب، والطول والقصر ... إلى آخر القائمة.
لقد انعكست خبرات العرب الدقيقة بالعتاق في أشعارهم، ويزخر ديوان الشعر العربي بالكثير من ذلك، ومن اللطائف أن شاعر العربية الأول أبا الطيب المتنبي، الذي عاش قبل الغرناطي بمئات السنين، قد حوى جُلَّ ما ذكره الغرناطي من أوصاف، في بيتي شعر من قصيدة رثا بها مهره العربي الأصيل فخلَّد ذكره، وأكد رفعة المكانة التي حظيت بها الجياد العتاق عند العرب على مر العصور، يقول:
رَحبِ اللَبانِ نائِهِ الطَرائِقِ      
ذي مَنخِرٍ رَحبٍ وَإِطلٍ لاحِقِ
مُحَجَّلٍ نَهدٍ كُمَيتٍ زاهِقِ
شادِخَةً غُرَّتُهُ كَالشارِقِ
وقد أسعدني أيما سعادة، الجهدُ النوعي الكبير الذي يبذله المجلس العالمي للخيل العربية (العتاق) للحفاظ على السلالة العربية، وتوسيع قاعدة المعرفة بالخيل وتعزيز حضورها في نسيج الثقافة العربية المعاصرة، وهو عمل يستحق الإشادة والتقدير لأنه يصب في جهود صياغة الهوية الثقافية العربية وإعادة تعبئتها بالأصيل من مفرداتها الضاربة بجذورها في الماضي العربي الجليل.
تأسس "العتاق" المجلس العالمي للخيل العربية، على يد نخبة من محبي الخيل العربية حول العالم، مع حرص على أن تكون الأغلبية للناطقين باللغة العربية والمنتمين لأصول بدوية تحرياً لصحة وموثوقية المعلومة، وأن تكون الخبرة من منابعها وجذورها.


وانطلقت "العتاق" الإماراتية، من إدراك لعدد من التحديات التي تواجهها الخيل العربية في العصر الحديث، نتيجة التغير المتسارع في مجتمع البادية العربية؛ موطن الخيول العربية ومصدرها الأول.
من هذه التحديات ما هو عَرضٌ ثقافي، يتجلى في نقص معرفة الأجيال الجديدة بتراث الفروسية وتربية الخيل عند العرب، وانتشار المفاهيم والممارسات الغربية.
ومنها ما هو تهديد حقيقي يتمثل في خطر انخفاض التنوع الوراثي وانحسار المستودع الجيني، وما يتبعه من محدودية التنوع في السمات الظاهرية، نتيجة اتباع معايير التربية الغربية وطرائقها في الانتخاب والإنتاج، وهو أمر تُخشى عواقبه على سلامة واستدامة السلالة العربية القائمة عبر تاريخها الطويل على الثراء والتنوع الجيني.
مما يستحق الإشادة في مجلس العتاق ذلك التأسيس المنضبط على أسس ثقافية وتاريخية وعلمية، والذي يتجلى في الصياغات المنضبطة لغوياً وتنظيمياً؛ إذ يعمل المجلس وفق هيكل تنظيمي يضم: مجلس الإدارة، وهو مجلس تنفيذي يتولى أمور خطط وأنشطة المؤسسة. والمجلس البدوي، وهو مجلس الحوكمة المشرف على أنشطة البحث التاريخي وتحكيم الخيل، ويضم ممثلين عن المصادر البدوية للخيل العربية. والقضاة، وهم الخبراء المتخصصون في مجموعات الخيل العربية المختلفة، والذين سيقومون بعمليات البحث والتحقق وتحكيم الخيل. واللجان المتخصصة، وهي لجان فنية من الخبراء المتطوعين لتنفيذ المهام والمشاريع المختلفة ذات الطبيعة التخصصية.
كما يقوم المجلس في عمله على اثنى عشر مبدأً رئيسياً، تعكس فلسفته وتحدد منهجه، وتمثل إطاراً حاكما تعمل داخله أهداف المجلس وتعريفاته ومعاييره.
تتوزع هذه المبادئ على أربع مجموعات هي: الهوية، والمعرفة، والجودة، والمحافظة.
والمبادئ هي: الثقافة، والعتق، والتكاملية، والمعلومات، والسياق، والافتراض المنطقي، والخصائص، والتنوع، والحفظ، والانتخاب، والمنهج العلمي، والبيئة التنظيمية.
وكل واحد من هذه المبادئ مُعرَّف بدقة في صياغة تسمح بالفهم والتواصل والعطاء؛ فتعريف الثقافة داخل إطار المبادئ هو: أي تعريف للحصان العربي لا بد أن يتوافق مع التعريفات والقيم الثقافية المسندة إليه من أصحابه الأصليين والذين هم القبائل العربية البدوية في شبه الجزيرة العربية. وتقوم هوية الحصان العربي على الموثوقية والنقاء، وهو ما تعبر عنه لغة العرب بمفاهيم العتق والأصالة.
أما تعريف التكاملية مثلاً فهو: التكاملية هي صدقية وسلامة الخيل العربية كما درجت إلينا من مرابط القبائل البدوية الموثوقة، ومن الواجب علينا المحافظة عليها واستدامتها. ويمثل مفهوم العتق المحدد الرئيس لصدقية وسلامة الحصان العربي عبر تاريخ العرب. وأي تغيير على السلالة العربية خارج هذا الإطار الثقافي هو ضد تكاملية الحصان العربي.
أما المنهج العلمي فيعني: التقدم العلمي يمكن أن يقدم الدلائل التي تساعد على إقرار وحفظ صفة الأصالة لأي جواد. المنهج العلمي يمكن أن يعزز المحافظة على تكاملية وصدقية الحصان العربي لأجيال قادمة. العلم الحديث يجب أن يعمل يدا بيد مع الأبحاث التاريخية لتفسير الظواهر العلمية ووضعها في سياقها الثقافي الصحيح.
وحسب المبادئ تشمل البيئة التنظيمية للحصان العربي كلاً من الإنتاج، والمنافسات، والتسجيل، والتبادل التجاري، والبحث العلمي، وكلها مكونات مهمة وضرورية لحفظ وصيانة السلالة العربية وازدهارها وفق المبادئ السابقة.
ثمة بنية فكرية واعية جديرة بالثقة تقف وراء هذا المجلس، تنعكس على لغته وطريقة تقديمه لأهدافه وإعلانه عن مبادئه، وهي خطوة جديرة منا بكل الدعم وتسليط الضوء عليها إعلامياً لنسهم معهم في استعادة مكانة الخيل العربي في البنية العربية المعاصرة بكافة ارتباطاتها الثقافية والفكرية والاقتصادية والتي تصب في مفهوم الاستدامة وتخدم التوجه نحو صناعات ثقافية إبداعية عربية، كما تسهم بشكل كبير في مسيرة استئناف الحضارة العربية وتمتين مفهوم الهوية الثقافية بجذورها العربية الأصيلة.
الحديث عن "العتاق" ودورها المهم يطول، لكنه جهد شديد الأهمية، يستحق التنويه والإشادة، ويستحق الدعم من كل المحبين للعتاق العربية، والساعين إلى الحفاظ على سلالتها الأصيلة التي لا تضاهى جمالاً وفروسية.