الخميس 21 مارس 2024 / 14:15

كُتُبٌ مٌبْصِرَةٌ (4ــ 8)

"التسامح الديني في أديان العالم".. حديث عن الأتباع والسّيّاسة العامّة

"تأتينا الكُتُب محمّلة بمعرفة ـ يقينية أو ظنية ــ هي بنات أفكار مؤلفيها، فتأخذنا معها إلى عوالم المتعة، والبحث، والمساءلة أحيانا، ومن خلال البصيرة ـ تدبراً وتأملاً ـ نستحضر معها الماضي، ونعيش معها الحاضر، ونتسابق معها نحو غد واعد، فتبدو لنا الأماكن مفتوحةـ والزمن ممتدا، حتى لو كانت الكتب متعلقة بقضية واحدة، تنوعت الرؤى حولها، وتعددت طرق البحث فيها، على النحو الذي سنراه في هذه القراءة الرمضانية لثمانية كتب، خاصة بـموقع (24:)
تعدُّ العودة من جديد للبحث في موضوع التسامح من منطلق ديني نوعا من الجرأة، التي لا يقدم عليها إلا العلماء والباحثون، الذين يتبغون إلى السلم العام سبيلا، أو على الأقل يسعون للتخفيف من حدة ودرجة العنف العام الذي يكتسح العالم كله، ويبدو فيه التعصب للأديان ـ سواء أكان ذاك مطابقا لنصوصها أو مُحوِّرا لها، أو خارجا كليّا عنها ـ منطلقا للأفعال والمواقف، باعتباره هو المتحكم في العلاقات بين البشر في الحاضر، وقد يكون سيد الموقف في هذا المجال خلال المستقبل المنظور.
ويزداد الأمر أهمية حين يكون منطلق البحث في "التسامح" ومرجعياته الأديان ـ الأرضية والسماوية ـ وما تحتويه من مذاهب، وما ينتمي إليها من جماعات، ما يعني كسر حدود الجغرافيا على مستوى المعرفة في البعد الآني لعصرنا، وامتداده بأثر رجعي حول التأصيل للتسامح في التراث البشري في معظم التاريخ الإنساني، بما فيه المرحلة السابقة عن ظهور الأديان.
ومسألة" التسامح في الأديان" قد تأتينا محملة "بيقين التصور والقيم والنهايات الغيبيّة" لدى "أتباع الأديان" من ناحية نظرتهم للآخر في الأديان الأخرى، بغض النظر عن الاعتراف به أو إقصائه، أو ما يترتب على ذلك من سلم وحرب، وهذا يستدعي قراءة أخرى لمسألة التسامح لا يتم فيها الاكتفاء بما جاء في النصوص أو الوصايا الدينية، وإنما تُعمَّق نظريّاً وعمليّاً من خلال محاولات بحثيّة جادَّة لمعرفة مواقف الأتباع من التسامح.

ميراث التسامح.. وثني وديني

في هذا السِّياق، نقدم هنا قراءة في كتاب "التّسامح الديني في أديان العالم Religious Tolerance in World Religious"، أسهم في تأليفه عدد من الباحثين، وحرر مادته: جاكوب نيوسنر وبروس شيلتون Jacob Neusner and Bruce Shelton"، واحتوى سبعة فصول ـ أو كما سماها الكتاب أجزاء ـ طرحت قضايا التسامح عبر 16 ورقة بحثية.
ركَّز الجزء الأول من الكتاب على الأسئلة المطروحة حول السماحة الدينية، وعن ماهيتها وأسبابها، وتناول الجزء الثاني "التسامح الديني في ديانة التوحيد لبني إسرائيل"، واهتم الجزء الثالث بموضوع "الغرب قبل المسيحية" حيث بحث في تعبيرات التسامح الديني قي الأدب اليوناني ـ الروماني، والوثنية اليونانية ــ الرومانية، وهذا ترتيب غير مفهوم، لأن الوثنية سابقة عن ديانة التوحيد الموسوية، فكيف تسبق الثانية الأولى؟!
 وينطبق السؤال السابق عن الفصلين الرابع: التسامح في المسيحية عبر تطورها التاريخي، والجزء الخامس إلى اليهودية لكن هذه المرة تم تناولها ـ خلافاً عن الجزء الأول ـ من زاوية الأسس اللاهوتيَّة للتسامح في اليهودية الكلاسيكية، وتسامحها تجاه الأوثان وعبادتها، حيث كان من المفترض أن يتم اٍلحاق الجزء الخامس بالجزء الثاني
وذهب الجزء السادس إلى البحث عن مصادر التسامح والتعصب في الإسلام، وكيفية التعامل مع أهل الكتب، واهتم الجزء السَّابع بالتسامح في البوذية والهندوسية.

الغرباء المقيمون

الكتاب، وإن ركز عن التسامح الديني في الأديان، إلا أنه سعى إلى تحديد مكونات النظم الدينية، التي تنبثق عنها مشاعر التسامح على النحو الذي ظهر في نتائج الأبحاث المختلفة، انطلاقا من "أن المساهمين في تأليف هذا الكتاب وضعوا مسألة التعصب والتسامح في إطار كونها شأنا من شؤون السياسة العامة من حيث النظرية والممارسة ضمن الأنظمة الدينية في الماضي والحاضر"(ص 9)
وانطلاقاً من هذا الرؤية طرح المساهمون تساؤلاتهم حول النظام الديني من خلال رسالته السياسية، وذلك باستعراض مفصل لأمثلة حية حول التسامح في الأديان، وما يترتب عليه من مواقف ترسخه على المستويين الاجتماعي والسياسي، مما يوحي بضرورة فهم أتباع الأديان للسياسة العامة المشتركة بين البشر جميعهم، بعد تطور وسائل الاتصال، وتدفق المعلومات، ومعرفة الناس لما كان مستترا لدى أهل الأديان، وظل من الناحية المعرفية حكرا عليهم.
لقد كشف هذا الكتاب ــ من خلال مجموع أبحاثه ـ أن اعتقاد الناس في أن الأديان تشجع أتباعها على التعصب والكراهية تجاه الجماعات الأخرى، يقابل بحقائق مختلفة، مع الاعتراف بوجود التنافس بين الأديان، وهو تنافس يتطلب التعايش، وربما لذلك طرح الكتاب في بدايته سؤالين نصّهما: "ما هي الأفكار التي تقدمها الأديان لتعزز التسامح مع التقاليد المنبثقة عن الأديان المنافسة الأخرى؟، وما هي الأفكار التي يقدمها دين معيّن في سبيل توضيح لماذا يدين للغرباء المقيمين في كنفه بحقوق الكرامة الإنسانية والاحترام ذاتها التي يمنحها لأتباعه؟
لقد قدم الكتاب إجابات للسؤالين السابقين، وقد وفق فيها إلى حدّ بعيد، مع الإقرار بأن إجابات بعينها جاءت مختلفة مع القناعات العامة لدى أتباع هذا الدين أو ذاك، وأخرى لم تكن معبرة عن نظرة الأديان للتسامح، بقدر ما طوعت لصالح العصر في مسعى مقصود لأجل العيش المشترك.