الثلاثاء 26 مارس 2024 / 09:34

مغزى الهدوء المصري مع غزة

محمد أبو الفضل - العرب اللندنية

نجحت الطريقة الهادئة التي تعاملت بها مصر مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أن تعصمها من تكبد خسائر، وربما جلبت لها مكاسب، فالتخوف مما يمكن أن يحدث في مصر، أولها، دفع بعض الأطراف الإقليمية والدولية المساندة إلى تقديم أنواع مختلفة من الدعم المالي، وكف اللسان السياسي الناقد ضدها الفترة الماضية.

نجحت الطريقة الهادئة التي تعاملت بها مصر مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أن تعصمها من تكبد خسائر، وربما جلبت لها مكاسب، فالتخوف مما يمكن أن يحدث في مصر، أولها، دفع بعض الأطراف الإقليمية والدولية المساندة إلى تقديم أنواع مختلفة من الدعم المالي، وكف اللسان السياسي الناقد ضدها الفترة الماضية.
بدت القيادة المصرية مقتنعة بعدم المبالغة في ردود الفعل على الاستفزازات التي قامت بها قوات الاحتلال بشأن السيطرة على معبر فيلادلفيا واجتياح مدينة رفح في جنوب غزة، والقريبة من الحدود المصرية، أو الانسياق وراء بعض الانتقادات الفلسطينية التي طالبتها بالتدخل ومواجهة إسرائيل عسكرياً، وإدخال المساعدات الإنسانية عنوة من خلال معبر رفح، وتحمل التكاليف الناجمة في الحالتين.
لم تترك القاهرة هذه النوعية من القضايا في أيدي هواة يطربون للشعارات، فالأوضاع التي تجري في القطاع وحوله تدخل في صميم قضايا الأمن القومي التي تترك للخبراء، وعدم تحويلها إلى حكايات يمكن طرقها كل ساعة، كما تفعل بعض الدول المجاورة التي لا يتوقف فيها الكثير من المسؤولين عند الحديث عن غزة وأحوال الفلسطينيين وتقرير مصيرهم بلا دراية كبيرة لما يدور من تفاعلات خلقتها الحرب على القطاع.
من المؤكد أن تداعيات الحرب ستطول، ولا أحد يستطيع الجزم بمعرفة طبيعة الترتيبات التي ستترتب عنها، فهناك أطراف عدة منخرطة في الأزمة وإن بدت بعيدة عن بعض تطوراتها المعلنة، وتحتاج مصر أن لا تنجر إلى الدخول في قضايا فرعية تشغلها وتشل حركتها في التعامل مع المحور الرئيسي، والخاص بوضع الآليات اللازمة لإيجاد حل مناسب للقضية الفلسطينية.
قفزت القاهرة على كل المهاترات التي حدثت وأرادت جرها إلى صدام مباشر مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، ومعهما دول غربية عدة، وتعاملت بحكمة شديدة مع الحرب وروافدها، في إطار الثوابت المتعلقة بالحفاظ على الأمن القومي للدولة، ونجحت في عبور الكثير من الألغام التي ظهرت أمامها، ولم تكن قادرة على ذلك لو أن حساباتها السابقة لما سوف يجري في المنطقة غير دقيقة.
استفادت الدولة المصرية من استعدادها لما يمكن أن يحدث لسيناء وفيها وحولها، ووظفت الهدوء الطاغي في توجهاتها الفترة الماضية في عدم الوقوع في أخطاء تسبب لها متاعب فادحة، وصياغة رؤية للتعامل مع التطورات، قوامها عدم الانجرار وراء تصورات تتبناها جهات لها أهداف خفية، أو تقوم بها قوى من دون مناقشة مباشرة معها، وفي الحالتين لا تريد مصر أن تتحمّل نتائج تصرفات يقوم بها غيرها.
لم يخلُ الهدوء المصري في التعاطي مع الحرب على غزة من صرامة رسمت خطوطاً عريضة يؤدي تجاوزها إلى أزمات إقليمية حادة، وقاد ذلك إلى يقين بأن خط التهدئة الظاهر في توجهات القاهرة يحمل وجهاً قاسياً قد يطفو في أي لحظة، الأمر الذي جعل من سياستي، الهدوء النابعة من فهم كبير للتطورات التي تولدت على هامش حرب غزة وتشابكاتها، والصرامة النابعة من حرص على عدم التهاون مع التجاوزات، الفصل بينهما صعباً، ولا يعني تقدم الأولى عدم اللجوء إلى الثانية.
أفضى فهم القيادة المصرية لدواعي المعطيات الإقليمية إلى تعزيز منهج الهدوء، ففي اللحظة التي وقعت فيها عملية طوفان الأقصى حدثت صدمة في إسرائيل ودول غربية، وبدا الجميع مستعداً لعصر أي دولة عربية تدعم العملية وتسعى إلى تقديم مساندة عسكرية للمقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، والتي ساورتها نشوة في إمكانية أن تمر عمليتها بلا عقاب أو تحظى بمباركة عربية، ولذلك كان الموقف المصري متوازناً بين مسؤولياته نحو القضية الفلسطينية والأمن القومي المباشر.
حققت القاهرة جزءاً مهماً من أهدافها في خضم تطورات بالغة الحساسية، وصعوبات الحرب على غزة، وقرأت جيداً ما تنطوي عليه التحركات الأمريكية والإسرائيلية، حيث تريد كلتاهما التأسيس لنظام جديد، تصبح فيه إسرائيل جزءاً منه في وضح النهار، ومهما كان حجم التقاطعات الغامضة في هذا الاتجاه، فالقاهرة لا تريد تفريغه عنوة من مضمون يتعارض مع مصالحها، بينما التعامل معه بهدوء يمكّنها من تحقيق ذلك، ويحقق لها مكاسب بعيدة، ويساعدها في تقويض الجوانب القاتمة فيه تدريجياً.
بات الهدوء واحداً من القواسم أو العلامات الواضحة في السياسة الخارجية لمصر، ومكّنها من تجاوز مطبات متباينة، كان يمكن أن تصبح نتيجتها قاتمة عليها لو تعاملت معها بطريقة مغايرة، فالقوى الكبرى مهما ارتفعت أطماعها لا تميل إلى قبول الدول التي تتحداها علانية أو تصطدم بها صراحة وتحرجها، ويمكن أن تتفهم الدول العقلانية التي تريد الحفاظ على مصالحها بلا استعراض لعناصر القوة التي تملكها، فلدى القوى الكبرى إمكانيات متراكمة تساعدها على الصمود والمواجهة وتحقيق أهدافها.
عرفت مصر عدم اختزال عناصر القوة في الشق العسكري فقط، وما لم تكن مكونات الهدوء حاضرة في استخدامها قد تصبح نتائجها سلبية، ما يفسر عدم الانحراف عن هذا المسار الفترة الماضية، وفي المرات النادرة التي ظهرت فيها علامات من الخشونة في الخطاب المصري، كانت بهدف الردع بصورة أساسية، وحققت أهدافها في ليبيا عند مواجهة تركيا، من خلال رسم الخط الأحمر الشهير (سرت – الجفرة) والتحذير من تجاوزه عسكرياً.
رسمت مصر أيضاً وبهدوء خطوطاً عقب اندلاع الحرب على غزة، ولم تعلن إسرائيل تصميمها على تجاوزها علناً، وصمتت الأخيرة على مواقف وردود مصرية خشنة، وبدت غالبية تصريحات المسؤولين في تل أبيب حريصة على تجنب الصدام مع القاهرة، وفهمت أن حكمة نظامها لا تعني القبول بكل ترتيبات إسرائيل الفلسطينية.
وجدت القيادة المصرية نتائج جيدة من وراء ضبط النفس الذي أظهرته مع حرب غزة، وعلمت الكثير من القوى الغربية أن لدى القاهرة أوراقاً يمكن أن تزعج مصالحها في المنطقة، فقامت بالاستفادة من سياسة الهدوء ومكافأة القاهرة على دورها، وربما زيادة الاعتماد عليها، وتشجيعها على ضبط بعض التوازنات المختلة، إذ استغلت إيران الفراغ الإقليمي وملأته بما يحقق أهدافها، وهو ما تنتبه إليه مصر التي لا تفخر أن تصبح شرطي المنطقة، أو أداة يتم توظيفها لتأديب الخارجين فيها.
رفضت مصر منذ فترة طويلة دور الشرطي، وصمتت على عدم حصر علاقاتها بجهة معينة، وقامت بتنويع روابطها بين الشرق والغرب، وما حدث مع غزة هو تراكم خبرات وتجارب أكدت أن الهدوء خير وسيلة للدفاع عندما تهب العواصف.