الأربعاء 17 أبريل 2024 / 16:54

ما السبب وراء تراجع الدراما السورية؟

بعيداً عن مقولة أن الدراما السورية اليوم فقدت عناصر قوتها وتراجع مستوى الإبداع فيها بسبب تحكّم رأس المال فيها.

 نرصد لكم في هذا التقرير أسباباً أخرى تقف وراء خفوت نجم هذه المسلسلات السورية التي أمتعت الجمهور العربي لسنوات.

قيد المال الطفيلي

يتجسد السبب الأول بـ: عدم وجود تسويق محلي للدراما السورية، أي عدم وجود فضائيات سورية كافية تستوعب كل الإنتاج، ما يسهم في عدم إنتاج نماذج جيدة، قد لا ترضي الفضائيات العربية.
وعدم ترخيص الفضائيات من قبل الجهات المختصة لا يزال قائماً، وعلى الأرجح خوفاً من تقديمها  نشرات أخبار وبرامج سياسية،  لكن ماذا عن فضائيات الخاصة بالدراما؟ وهي التي ستفك قيد المال الطفيلي لمحدثي النعمة، والخارجي، من حول رقبة الإنتاج الدرامي وتستوعب كل المسلسلات التي تُنتج.
ثمّ جاءت الحرب التي كانت وطأتها متعددة كثيراً على مسيرة الدراما السورية، نجم عنها توقف شركات إنتاج، وهجرة بعض كتّاب الدراما، وبعض الممثلين والممثلات والمخرجين، ما ساهم سلباً على مستوى ما ينتج، ناهيك عن الحصار الذي فرضته بعض الفضائيات لسنوات خلت، ثم انفك الحصار تدريجياً.

سرّ نجاحها

أما الجانب الأهم الغائب، وهو السبب الحقيقي وراء ضعف هذه الدراما، فهو نفس السبب الذي منحها القوة والتميّز.
فمسيرة الدراما السورية تقول أنه عندما تنبّه بعض الروائيين وكتّاب القصة القصيرة والمسرح إلى خطورة فن الدراما التلفزيونية وسرعة انتشاره، خاضوا فيه وفق خبراتهم وقدموا مساهماتهم بأمثلة جيدة، وإن كانت متفاوتة.
وكان في مقدمتهم الأدباء الراحلين: حكمت محسن، جان ألكسان، عبد العزيز هلال، عبد النبي حجازي، خيري الذهبي، عادل أبو شنب، وليد مدفعي، محمد الماغوط، داوود شيخاني، رياض عصمت، من دون أن ننسى كتاباً لا زالوا على قيد الإبداع وهم: أكرم شريم، نهاد سيريس، د. مي الرحبي، نور الدين الهاشمي، فرحان بلبل، محمد سلام اليماني، محمد أبو معتوق، فيصل خرتش، رياض نعسان آغا، حسن .م. يوسف، من دون أن ننسى مساهمة بعض الكاتبات بتفاوت في الإنتاج، أمل حنا، دلع الرحبي، ريم حنا، كوليت بهنا، آنا عكاش،  وبفترات زمنية متفاوتة.

خصوبة إبداعية

وإن كان لنا أن نشير إلى بعض التجارب اللافتة للنظر لنوضح سبب تميزها، فإننا نشير إلى تجربة الراحل ممدوح عدوان الذي بدأ بكتابة الدراما التلفزيونية عن روايات وقصص مترجمة قبل أن يبدأ بتقديم أعماله الخاصة، فمن خلال تحويله النصوص الأدبية امتلك سر الكتابة الدرامية تدريجياً، لاسيما وأن مسيرته الأدبية بدأت برواية " الأبتر" عام 1969 التي لم تحظ بنصيب من الحضور، والتي ربما يجهلها الكثيرون، وكانت شهرته كشاعر وصحافي ومسرحي ومترجم هي الطاغية، ثم أكد نزوعه الروائي برواية ثانية عام 2000.
وكان من الطبيعي أن لا تكون كل أعماله جيدة ففيها تفاوت لكن الناجح منها توافرت له الأسباب بعد امتلاكه المقومات الأدبية القادمة من كتابة الرواية والمسرح، وهذا ما جعل مسلسله "الزير سالم" أهم أعماله ومن أهم المسلسلات المتقنة في معظم مقوماتهما ونالت رضا الجمهور والكثير من النقاد.
والتجربة الأخرى التي انقسمت شواغلها بين فنين هما الرواية والدراما التلفزيونية هي تجربة الراحل خالد خليفة، فالنزوع الروائي لديه ساهم كثيراً في بناء دراما يتوافر فيها كل المقومات المُجيدةَ النسجِ، وقد تزامن إصدار روايته الثانية " دفاتر القرباط" مع عرض مسلسله الأول " سيرة آل الجلالي" عام 2000 ثم تابع كتابته في الدراما التلفزيونية وله فيها 8 أعمال، فاق عددها ما أصدره من روايات، وكان موفقاً في أغلبها بعد أن حقق حضوراً لافتاً بعد أول مسلسل.

جرأة بإنتاج حكومي

أمّا الكاتب الراحل غسان جباعي جاء لحقل كتابة الدراما التلفزيونية من عالم المسرح والسينما ممثلاً، وهو يحمل الماجستير في الإخراج المسرحي من أوكرانيا، شارك في أكثر من ثلاثة أفلام سينمائية كممثل، أصدر عام 1994 مجموعته القصصية الأولى "أصابع الموز" عن وزارة الثقافة السورية، وشاهدنا له فيما بعد خمس مسلسلات من كتابته كان أولها " تل الرماد" عام 1996  لكن عمله الهام جداً هو "قرن الماعز" عن قصة للكاتب البلغاري ألكسندر خايتوف، وباعتبار أن الجباعي أحد سجناء الرأي الذين اعتقلوا لسنوات عدة، عاد في المسلسل إلى فترة ماضية من تاريخ سورية المعاصر ليرصد بداية تكوّن حكم وطني قبيل جلاء الاحتلال الفرنسي، ليصل إلى مقولة أن معاناة الإنسان السوري من الاستبداد والقهر الاجتماعي والفقر لم تتغير ولم تنحسر بعد، وأن الذي تغيّر هو ألقاب الأشخاص الذين يمارسون كل ذلك عليه، وتغيرت مواقعهم في السلطة، باختلاف تلوينات هذه المواقع. والمفارقة أن هذا الخطاب الفكري الجريء للمسلسل كان من إنتاج التلفزيون الحكومي عام 2005!

ثنائية وكوميديا

ونشير إلى ثنائية قدمت عملاً لا يزال طازجاً، بين الكاتبتين ريم حنا ودلع الرحبي، شراكة أنتجت عملاً بجزئين، حمل المسلسل اسم "الفصول الأربعة"، ومع أن المسلسل يعود لعام 1999، لكنه مثار حنين للعديد من المشاهدين.
بعدها استمرت ريم ودلع بالكتابة بشكل منفرد وقدمتا أعمالاً هامة، فريم حنا عرفناها أولاً شاعرة قبل أن تقدم مسلسلها الأول أحلام مؤجلة عام 1993، أمّا دلع الرحبي، أصدرت بعد أن أكدت حضورها المميز في الدراما التلفزيونية، بعض المجموعات القصصية.
وليس بعيداً عنهما سيّد الكتابة الكوميدية بلا منازع الكاتب د.ممدوح حمادة الذي أصدر بعد مسلسلات عدة أكثر من خمس مجموعات قصصية، وهو الذي يحمل أكثر من شهادة بدرجة الدكتوراه في الصحافة وفي الإخراج السينمائي، ومارس الرسم الكاريكاتوري، كانت انطلاقته الأساسية بعد ثلاثة أعمال ضعيفة من سلسلة النجوم 6 و7 و8 ، في مسلسل "بطل من هذا الزمان" وتابع حضوره وتميّزه في أعمال كثيرة أمست شهيرة.    

ثنائي تنويري

صحيح أننا نرجع مسألة نجاح الدراما السورية للخلفية الأدبية التي جاؤوا منها معظم الذين أسسوا لهذا الفن، لكننا لا نعدم التجارب المبدعة خارج هذا السياق كتجربة الثنائي التنويري الفريد بإبداعاته " حسن سامي يوسف ونجيب نصير". إذ لم نعرف لهما أي إصدار أدبي قبل حضورهما في حقل الدراما التلفزيونية، ربما كان لهما بعض القصص المنشورة في مجلات ما، ورغم ذلك حققا حضوراً لافتاً بأعمالهما المشتركة (نساء صغيرات، أسرار المدينة، أيامنا الحلوة، رجال ونساء، الانتظار، الغفران، السراب، فوضى) وغياب أعمالهما المشتركة شكل ثغرة كبيرة في الدراما السورية، إذ سافر نجيب نصير إلى لبنان واشتغل بمفرده، كما تابع حسن سامي يوسف الكتابة بمفرده، وحققت أعمالهما أيضاً حضوراً ومتابعة جماهيرية ونقدية. وهي تجربة فريدة أنجزت ثماراً طيبة معتمدة على فكرهما النيّر وخلفيتهما الثقافية الواعية، فالكاتب حسن اختصاصي بفن السيناريو السينمائي وله مشاركات سينمائية قبل شراكته مع الكاتب نجيب نصير الذي لا تتوافر معلومات عنه قبل حضوره في حقل الدراما التلفزيونية. 

تعزيز القيم

وطبعاً لا نعدم أسماء كتّاب لم نكن نعرف شيئاً عن خلفيتهم الإبداعية لكن خلفيتهم الثقافية ورؤاهم الإنسانية التي لم تلهث وراء المال حين مضت تكتب دراما تلفزيونية، لا نعدم وجودهم المبدع الذي أثبت حضوره بعمل أو أكثر يتسم بالتنويرية كما هي لوحات الكاتب "أسامة إبراهيم" الذي كتب لبقعة ضوء ومرايا قبل أن يقدم عمله الاستثنائي "رياح الخماسين" الذي تفرّد بتخصيص عمل لسجين رأي قضى 15 سنة في السجن ثم خرج يتابع حياته ليسلط لنا المسلسل الضوء على تحولات المجتمع قبل دخول الشخصية إلى السجن وبعد خروجه منه، معززاً أهمية القيم الإنسانية وضرورة تمسكنا بها لئلا ينهار المجتمع.

مقاربة عميقة

خلاصة الكلام، كل هؤلاء وأسماء أخرى، ليس غاية مقالنا حصرها، قدموا أعمالاً جيدة وعميقة ومتينة، وإن بتفاوت، حتى بين أعمالهم ذاتها، لأنهم من خلفية أدبية أجادوا الاهتمام بمقومات بناء العمل الدرامي من فضاءات مكانية وزمانية وأحداث وقصة ورسم شخصيات وحوار يناسب الشرائح التي تنتمي لها، استطاعوا فيها تقديم مقاربة عميقة لهموم وقضايا الناس المشاهدين، سواء كانت الأعمال كوميدية أم معاصرة.
كما تجدر الإشارة إلى أن بدايات الفنان ياسر العظمة عام 1988 بعمله الشهير مرايا اعتمد على العديد من تحويل القصص العربية والمترجمة قبل أن يشاركه الكتابة لفترة الكاتب مازن طه، ثم انفك عنه العظمة ليعقد شراكة أخرى ناجحة مع الكاتب نور الدين الهاشمي لعشر سنوات، وهو قاص ومسرحي.

آلية عمل

ولو أردنا أن نأتي بمثال يوضح أهمية الخلفية الأدبية لكاتب الدراما التلفزيونية وآلية عمله، التي تفتقدها أغلب النصوص التي أنتجت في سنوات الحرب، لنا أن نقتطف من مقالة الروائي والسيناريست نهاد سيريس الآتي من مقالة نشرها حديثاً في "الجمهورية" بتاريخ 12/3/2024 تحدث فيها عن مكتبته أشار فيها إلى آلية تحضيره لمسلسله الأول "خان الحرير": 
"إنَّ أهم كتاب نظري – نقدي موجود في مكتبتي هو الرواية التاريخية لجورج لوكاش. إنني أميلُ إلى أخذ الأحداث العامة أو التاريخية بعين الاعتبار في كل أعمالي، سواء كانت أدبية أم فنية، لذلك فإنني أحرصُ على جعل الشخصية الروائية تعيش ضمن التاريخ العام، وليس فقط تاريخها الشخصي. لا يوجد ذلك الإنسان المنعزل عن الأحداث العامة. في خان الحرير تعيشُ شخصيات المسلسل تداعيات تأميم قناة السويس ثم الوحدة السورية المصرية وما تبعها من تغيُّر في مصائرها. الأحداث التاريخية تُغيِّرُ حالَ المجتمع وبالتالي الأفراد. بسبب ذلك بالتحديد أقوم برسم المجتمع والقوى السياسية الفاعلة في الفترة الزمنية للرواية أو المسلسل. لذلك يهمني كثيراً أن أكونَ على معرفة جيدة بالأحداث أو خريطة القوى السياسية. في خان الحرير تتغيّرُ هذه القوى منذ بداية المسلسل حتى نهايته. إنها لا تتغيّرُ وفق مشيئة الكاتب، بل هي موضوعية مفروضة من التاريخ وعلى الشخصيات أن ترضخَ لها".

فرصة متاحة

ليس أخيراً، نزعم أن الدراما السورية تستطيع أن تستعيد ما تميزت به من إتقان وألق حالما يتوافر لها شركات إنتاج تذهب إلى الكتّاب المشهود لهم بجودة أعمالهم وتعطيهم ما يستحقون من فرصة إنتاجية متاحة، هي لصالح الجميع كتّاباً ومخرجين ومنتجين وفنيين ومشاهدين.