الجمعة 8 أغسطس 2014 / 20:00

أشرف الصباغ: أعيش على الحدود

القاهرة ـ خاص

أشرف الصباغ كاتب ومترجم وصحافي مصري. له عدد من القصص والروايات والترجمات والدراسات، منها "قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية"، "خرابيش"، "العطش"، قصص، "المسرح الروسي بعد الانهيار"، "غواية إسرائيل: الصهيونية وانهيار الاتحاد السوفيتي"، "عشر سنوات على انهيار الاتحاد السوفيتي"، "يناير"، رواية، وغيرها. في هذا الحوار يتحدث أشرف عن عمله متنقلاً بين روسيا ومصر، وتأثير الصحافة على منتجه الإبداعي، وتواصله من الغربة مع الوسط الثقافي المصري، ومشاريعه خلال الفترة المقبلة.

أعتبر إيفان جونتشاروف أهم الكتاب الروس والعالميين. أهم حتى من معاصره دوستويفسكي

قد ينفع العمل الصحفي في تشكيل وعي عام بالعالم ولكن الوقت قليل جداً للكتابة الأدبية

أنت مقل فيما يتعلق بتجربة الإبداع.. فهل هذا له علاقة بالعمل الصحفى من الخارج؟
لا يوجد كاتب يستطيع أن يكون راضيا لا عن معدل كتاباته ولا حتى عن مستواها. وهذا أحد أهم الأسباب لاستمرار أي كاتب في الكتابة باعتبارها مشروعا متصلا وليست حلقات متقطعة. كل ما في الأمر أن الانخراط في الصحافة بدرجة كبيرة والسفر المتواصل وتغطية الحروب والمناطق الساخنة أدت إلى الانغماس الكامل في السياسة والقضايا الكبرى. وهو ما أدى بشكل أو بآخر في اتخاذ القرار بالبدء في نشر روايتي (يناير) التي كتبتها في منتصف الثمانينيات تقريبا. وبالفعل نشرتها في عام ١٩٩٢. وفي عام ١٩٩٦ نشرت روايتي الثانية (مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري). طوال هذا الوقت كانت الكتب المترجمة من الروسية تصدر مع الكتابة شبه اليومية في الصحف والمجلات. ومع ذلك، لا يمكن أن أنكر أن الصحافة والنشاط العام استحوذا على جزء كبير!

هل الصحافة تعطل الكاتب؟

قد ينفع العمل الصحفي (في الخارج أو الداخل) على المدى البعيد في تشكيل وعي عام بالعالم وبمتغيراته وتحولاته. هذا العامل مهم جدا في كتابة الرواية بالذات. ومع ذلك فالوقت قليل جدا من أجل الكتابة الأدبية، على الأقل في السنوات الثماني الأخيرة، حيث أصدرت مجموعة قصصية واحدة، وهي الرابعة. بينما أكتب قليلا في المجال الثقافي والإبداعي.
في الحقيقة، لم أتأخر إطلاقا في الكتابة. التأخر كان في النشر. وأقصد نشر الكتب. أما النشر في الصحف والمجلات فقد بدأ في عام ١٩٨٥. حيث نشرت لي أول قصة في مجلة القاهرة أثناء تأدية الخدمة العسكرية. وبعد ذلك عملت في دار التحرير للطبع والنشر (صحيفة المساء).. وواصلت النشر في العديد من الصحف والمجلات في مجالات عديدة، منها النقد المسرحي والسينمائي والتحقيقات الأدبية والثقافية. ولم أتمكن من نشر روايتي التي كتبتها في ذاك الوقت لأسباب كثيرة. وسافرت في نهاية عام ١٩٩٧ إلى موسكو السوفيتية لاستكمال دراساتي العليا في تخصصي (الفيزياء). وانقطعت تماما عن الكتابة. اقتصرت حياتي على القراءة بمعدلات مذهلة، والعمل على الرسالة. وفي عام ١٩٩٥، أدركت أن الاستمرار في مجال العلوم أمر صعب للغاية. فعدت إلى الصحافة والكتابة. وكانت غالبية قصص هذه المجموعة مكتوبة أصلا في منتصف الثمانينيات. فقمت بتنقيحها ونشرها في مجموعة. وخلال عام واحد كانت المجموعة الثانية (العطش) جاهزة للنشر. ثم المجموعة الثالثة (خرابيش). في هذا الوقت بدأت الترجمة أيضا للمجلات المتخصصة، وإصدار بعض الترجمات في مجالات متعددة داخل مصر (في المجلس الأعلى للثقافة وهيئة قصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب وبعض دور النشر الخاصة)، وخارج مصر أيضا.

كيف تتواصل مع الوسط الثقافي من الخارج.. وهل تطلع بانتظام على ما يصدر؟
حتى عام ١٩٩٨ كان هذا السؤال يشغلني جدا ويؤرقني بصورة مزعجة. ولكن مع التطور الهائل في وسائط الاتصال والإعلام والحركة والسفر، صار العالم أصغر مما نتصور. أنا أتابع ما يجري في مصر أو في أي دولة عربية وأنا في موسكو أو باريس أو برلين، كما أتابعه وأنا في جنوب السودان أو في نيجيريا. والمسألة هنا لا علاقة لها بالفهم الرومانسي للوطن أو حتى النظر للوطن بتلك النظرة العاطفية. فالوطن أكبر بكثير من ذلك الوطن المجرد الذي يتحدثون عنه في الكتب والمقالات والأشعار ويطبلون له ويزمرون. الوطن هو سقف ولقمة خبز وعمل وحرية.. هو حديقة وتعليم محترم ومنظومة قانونية تطبق على الجميع بدون تمييز.. الوطن هو خصوصيتي.. غير ذلك، يمكننا أن نطبل ونزمر ونرقص في مستنقع من الفقر والجهل والأمية والاستبداد، ونحن نشعر أننا في الجنة! أما طريقة التعامل مع إبداعي، هي ليست استثناء. إنها جو عام ونمط حياة للمجتمع كله الذي يضم مئات الكتاب والمبدعين، وآلة نشر وإعلام، ومجموعات مصالح، وتوجهات أدبية، وانحيازات اجتماعية.. لا يمكن أن يشعر كاتب بالظلم أو التهميش إذا كان يدرك جيدا تركيبة مجتمعه وحالة النخبة ومجموعات المصالح.. أنا شخصيا في غاية الرضا بشأن استقبال أعمالي. كل ما في الأمر، هو أن لا أتوقف أو أصاب بالإحباط أو أبدد طاقتي في صراعات وهمية أو انحيازات تتعارض مع نشأتي الاجتماعية وقناعاتي الفكرية.
أتواصل مع الوسط الثقافي، في وطني، في حدود معينة، انطلاقا من ظروفي عملي وعلاقاتي الثقافية والاجتماعية. ولكن أحيانا يكون "البعيد عن العين، بعيد عن القلب". ومع ذلك، يمكنني أن أزعم أن علاقاتي بالوسط الثقافي في بلدي جيدة.
وعموما، فبُعد الكاتب عن المجتمع الذي نشأ فيه يساهم في تطوير الكاتب وإعادة بناء عقله وتصوراته، وإثراء تجربته. فما بالك إذا كان الشخص يسافر ويتابع ويطمح لمشاركة الآخرين ويكتب لهم ما يراه. أعتقد أن ذلك جدير بالمتابعة ضمن ما يطرحه الآخرون أيضا. فلعل وعسى أن يطرح جديدا أو أي شيء مختلف. أما عنصر التجاهل أو عدم الحضور في المناسبات، فهذا أيضا أمر مهم. فماذا نفعل إذا كان الغياب الجسدي يؤثر فعلا في الترويج للمنتج. ومع ذلك، أنا أعرف مبدعين داخل مصر لا يرحبون كثيرا بحفلات التوقيع والانضمام إلى شلل ومجموعات إبداعية مغلقة.

ومن الكتاَّب الذين تعتبر أنهم الأقرب إليك أو الذين تنتمي إليهم إبداعياً؟
سؤال في غاية الصعوبة والتعقيد. فلكل مرحلة من مراحل تطوري كانت هناك أعمال لكاتب معين قريبة لروحي الإبداعية ومستوى الوعي في تلك المرحلة. وأعتقد أنني لن أكذب إذا قلتُ أن المبدعين من جيلي أفادوني كثيرا، سواء في اللقاءات والنقاشات أو عندما كنا نقرأ لبعضنا البعض. وهذا لا يتعارض أبدا مع اقترابي من أعمال الأساتذة الكبار الذين أبدعوا في الستينات أو السبعينات. وهناك من التقيته شخصيا، وهناك من لم يحالفني الحظ في لقائه. ولكن في العموم، يمكنني التأكيد على أنني استفدت كثيرا من تجارب محمد إبراهيم مبروك القليلة، من صبري موسى وبهاء طاهر ومحمد جبريل.. من الكبيرين نجيب محفوظ ويوسف إدريس.. هناك تراث أدبي في مصر بحاجة إلى موسوعة أنطولوجية مهما اختلف النقاد عليه. وأعتقد أن حياة الشوارع في مصر جعلتنا نُشَكِّل تلك الموسوعة "نظريا"، سواء من العلاقات الخاصة أو القراءة، أو الخلافات الأدبية والمعارك والشتائم والسباب!
ولكن إذا شئنا الدقة، فأنا مشغول بالكتابات التي ظهرت في التسعينات والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة. وأعتقد أنها لم تصنع القطيعة الفلسفية والأدبية اللازمة مع ما قبلها. لقد ظهرت كتابات مهمة، رغم قلة إنتاج أصحابها، تعكس مدى التنوع واتساع الرؤية وكسر العديد من المقدسات الأدبية شكلا ومضمونا.
وإذا كانت الظروف قد ساعدتني في قراءة بعض الأعمال المهمة بلغتها الأصلية، فلم يجعلني ذلك أن أتجاهل كتابنا المصريين. بل أرغمني على فهمهم أكثر فأكثر. وعموما، أقرأ كثيرا للكاتب الروسي – ماقبل السوفيتي - إيفان جونتشاروف، وأعتبره أهم الكتاب الروس والعالميين. أهم حتى من معاصره دوستويفسكي الذي أعتبره بدوره نبي الرواية في الأدب العالمي. لقد دخلت أعمال جونتشاروف إلى الميثولوجيا الشعبية الروسية وتحول العديد من جمله وعباراته إلى أمثال شعبية ومصطلحات اجتماعية. وربما لا يضاهيه عندنا إلا نجيب محفوظ فقط الذي دخلت عباراته وأنماطه الأدبية إلى الميثولوجيا الشعبية، يليه يوسف إدريس بنماذجه وشخصياته. هناك أيضا فالنتين راسبوتين الكاتب المعاصر الأكثر أهمية في مرحلة الستينات والسبعينات والثمانينيات من القرن العشرين. ولا يمكن هنا أن نتجاهل كتاب مرحلة الثمانينيات والتسعينيات أيضا في روسيا وخصوصيتهم ليس في استحداث نماذج أدبية قد تكون بعيدة عن تقاليد الأدب الروسي والسوفيتي، بل لإضافاتهم المهمة إلى المدارس الأدبية الأخرى، ودخولهم إلى ما بعد الحداثة من باب الأدب الروسي بتقاليده ونماذجه الإبداعية.

وما جديدك؟ سواء على مستوى الإبداع أو الترجمة؟
الجديد هو رواية "رياح يناير" تحكي عن الأيام الثلاثة التي سبقت انتفاضة "١٨ و١٩ يناير" عام ١٩٧٧. بطلها طفل الشوارع "بشير" الذي يتحرك في بعض الأماكن في القاهرة، ثم ينتقل إلى العديد من مدن مصر ليكشف الأحداث التي كانت تجري آنذاك في المجتمع المصري. هناك أيضا النخبة والمثقفين الذين يعيشون حياتهم وأفكارهم، وتنظيراتهم للثورة القادمة، ويناقشون شكل القيادة والتنظيم، بينما الثورة تسير إلى جوارهم وأمامهم.. وهناك أيضا ممثلو الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة الذين يتحركون ويحركون الأحداث. الرواية، من وجهة نظري، تعتمد على التوازيات في حركة الأبطال الذين لا يتقاطعون تقريبا، وإنما يسيرون في خطوط ومصائر متوازية على الرغم من حياتهم ومعاناتهم المشتركة. كما تطرح مصائر المثقفين ودورانهم في حلقة مفرغة من الخلافات والصراعات التي تستنفد طاقاتهم وتعرضهم لحلقات من المعاناة والوقوع في المحظور. وتُلَمِّح لقدوم التيارات الدينية وتسللها إلى جوهر الهوية المصرية وانتقال المثقف من النقيض إلى النقيض..
كما أعمل حاليا على مجموعة قصصية. وفي الحقيقة، كنت أفضل أن أعمل على تجربة ظهرت فكرتها فجأة أثناء جلسة مع أصدقاء مبدعين، ولكن للأسف، يبدو أن التجربة جُمِّدَتْ أو توقفت مؤقتا بسبب انشغال بعضنا أو ترتيب أولوياتهم. وهي تجربة أعتبرها إلى الآن جيدة وقد تضيف لكل منا ولمجمل التجارب التي يقوم بها الزملاء والأصدقاء.. مجرد فكرة – تجربة مجنونة ولكن مردودها النقدي قد يكون كبيرا ومميزا. وعندي أمل كبير في استئنافها. وهي فكرة إبداعية بعيدة تماما عن المشروعات التجارية أو الفرقعات الإعلامية. ولذلك كنتُ مضطرا لاستبدالها مؤقتا بالمجموعة القصصية التي أعمل عليها الآن. وما زلت مستعدا للتنازل عن هذه المجموعة أو تأجيلها في سبيل إحياء الفكرة مع أصدقائي المبدعين.

أما على مستوى الترجمة، فالأمور أسوأ بكثير مما أتصور أنا شخصيا! كل ما عندي، مجرد مشروعات متوقفة أو مجمدة. وكل ذلك بسبب ظروف العمل والسفر والتنقل.

وهل هناك وقت معين تعرف أنك ستعود بشكل نهائي فيه إلى مصر؟
أما فيما يتعلق بالعودة، فالحياة تنعطف يمينا ويسارا بشكل أكاد أفقد فيه السيطرة حتى على اللحظة التي أعيشها "هنا والآن".. وأقصد "أي هنا وأي آن".. فكما لم أخطط لسفري، لا أستطيع التخطيط لعودتي. ومع ذلك فأنا أعيش بين موسكو والقاهرة. وإذا شئنا الدقة، فأنا أعيش على الحدود، حدود كل شيء بما فيها حدود الدول بحكم عملي. ناهيك عن الفضول الذي يدفعني كثيرا إلى ترك تلك الحدود للدخول إلى المجهول.. لكن الشىء الوحيد الذي لا أستطيع أن أفعله هو "العيش على حدود العلاقات الإنسانية"!