السبت 23 أغسطس 2014 / 20:43

تراثنا وإرث "داعش"



عند النظر إلى الزخم الجديد الذي تشهده الدول العربية منذ 2011، لا شكّ أن القناعة الوحيدة التي تتسلل إلى الذهن، هي أن ما أصبح يُعرف بالربيع العربي، غطى في فترة قياسية تقريباً على كل المنجزات مهما كانت بسيطة التي تحققت في عدد من الدول العربية، ليس في السنوات الأخيرة فقط بل على امتداد قرن كامل من عمر الدول الوطنية مشرقاً ومغرباً بسبب الفوضى السياسية التي عصفت بدول الربيع هذا ولكن أيضاً تحت"حوافر" البعبع الذي خرج فجأة من العراق والشام أو "داعش" حتى لكأن البغدادي خليفة التنظيم ليس سوى نسخة حديثة من هولاكو مع فرق الساعة الثمينة في معصمه.

اليوم وبفضل "داعش" أصبح العالم العربي الذي كان يحاول على امتداد السنوات الخمسين الماضية المساهمة في صناعة التاريخ الإنساني المشترك وتقديم إضافة مناسبة للعالم وللحضارة، أصبح في أشد الحاجة إلى إثبات جدارته بالانتماء إلى العائلة البشرية واحتلال مكانه بين الآدميين قبل التفكير في المساهمة في أي بناء أو مشروع إنساني.

لكن ورغم هذا النكوص الذي يمثله داعش وتوأمه النصرة وغيره من التنظيمات والتشكيلات الإجرامية، فإن ذلك لا يُمكنه أن يحجب عنا حقيقة أن داعش ليس أولى البلايا التي أصابت دول المنطقة قديماً وحديثاً، ويكفي النظر إلى التطورات الكثيرة التي مرت بها دول عديدة وما خلته من منظمات وتشكيلات مماثلة لندرك ذلك، ولندرك أيضاً أنه رغم تكالب "الإجرام" على مستقبل الشعوب العربية بداية بالإخوان والصهيونية في ثلاثينات القرن الماضي انتهاءً بالبعث في الستينات والسبعينات من ذات القرن وصولاً إلى الجماعات الإسلامية المختلفة التي عصفت بقاهرة المعز وبالجزائر البيضاء في التسعينات وانتهاءً بالقاعدة في السنوات 2000 وحتى الطامة "الداعشية" الأخيرة، فإن إرادة الحياة كما تغنّى بها أبوالقاسم الشابي الشاعر التونسي كانت وستبقى دائماً أكبر وأعلى، وبقي صوت الضمير طليقاً سليطاً ومدوياً ولم يخرس أبداً في وجدان كل عربي ومسلمٍ شريفٍ.

وكما مضى الإخوان وتنظيماتهم والقاعدة وشبكاتها لن يتبقى من داعش سوى اللّعنات والشتائم وكما تحول "بن لادن" و"أسامة" بعد 2001 من لقب أو إسم  إلى شتيمة وعبارة فاضحة خادشة للحياء في اللغة الشعبية الأمريكية، سيواجه التنظيم الوحشي داعش المصير وسيقترن في القريب بلعنات العجائز، ولن يُذكر منه سوى نصلٍ قديمٍ وحسابٍ بنكيٍ، فهذه العصابة لم تكن ولن تكون سوى جماعة حشاشين جديدة تنتشي بمنظر الدم والذبائح مثل الحشاشين القدامى في ألموت القديمة حول معلمهم حسن الصباح الشهير.

إن الأُفق الممكن الوحيد لداعش، هو "التداعش" الذاتي أو الاقتتال الداخلي الذي يشكل وقود كلّ كارتيل أو تنظيم إجرامي وإرهابي على شاكلته، وقد لاحت تباشير هذا الاحتراق الداخلي بعد ما يجعل التنظيم بعد انقسامه إلى قيادات شرعيةً وأخرى "أكثر" شرعية قريباً، وبين مؤمنة حقيقية وأخرى "أكثر إيماناً" وتقوى على عتبة مرحلة جديدة، خاصة بعد الصحوة المتأخرة للضمير البشري والسياسي الدولي بإقرار عقوبات مالية وسياسية ضدّ مصادر التمويل والترويج والدعاية، ولن يكون أمام التنظيم سوى الهروب إلى الأمام بارتكاب المزيد من الفظاعات أو التشظي إلى عصابات فرعية أخرى، يحارب بعضها بعضاً، وينشر الخراب والإبادة في طريقه.

ولكن هذا الأفق لا يمكنه أن يكون مستقبلاً ولا يسمح لنا بالحديث عن مستقبلٍ لشيءٍ لا أصل ولا ماضيَ له، فهذه الآلة المُدمرة ليست أكثر من بثورٍ أو دُمل مؤلمٍ ولكنه سطحي على جلد الضمير العربي والمسلم في أزمته المعاصرة وليس تراثاُ قومياً أو دينياُ  أو ثقافياً، ويكفي النظر إلى حقيقة بسيطة على الأرض لندرك ذلك.

 فمجازر داعش ضد الإيزيديين والشبك والأشوريين والكلدان والسريان وغيرهم من المسيحيين ومن أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام في العراق فضلاً عن المسلمين أنفسهم، كفيلةٌ وحدها بفتح عيون التنظيم وخليفته على حقيقة لا يمكنه التغاضي عنها طويلاً، مفادها أنه  ليس فقط بصدد محاولة فاشلة لإبادة مجموعات عرقية أو طوائف دينية مختلفة، بل هو أشبه بمن يحاول تمزيق صفحات من كتاب تاريخ يمتد إلى عشرات القرون قبل داعش وسيستمر رغم كل المحن في الوجود بعد داعش، فالحياة التي استمرت قديماً نهرٌ جامحٌ لا يمكن السيطرة عليه أو تحويله، ربما يمكن التقليل من منسوبه أما تجفيفه... فمستحيل.

وإذا كانت هذه المجموعات المُضطهدة اليوم على يد داعش  قد استمرت في الحياة سابقاً وصمدت في أحلك الظروف التاريخية التي مرت بها على امتداد تاريخها الطويل، فإنها تشهد بذلك أن العربي والمسلم الحقيقي ليس سفاحاً ومصاص دماء بالسّليقة، ولتجعل من وجودها الضروري بمثابة الميراث التاريخي المشترك والحيّ للعرب والمسلمين جميعاً في حين لن يترك لنا داعش وخليفته سوى سيفاً صدئاً ورصيداً بملايين الدولارات ستعود قريباً فتبني مدارس لتعليم البنات وتقيم مستشفياتٍ وطرق وبيوت وخدمات وغيرها من أسباب الحياة الذين شردهم داعش بمناسبة ظهوره القصير.