الثلاثاء 26 أغسطس 2014 / 11:04

من يدري كيف سينتهي هذا المقال؟

توم فاندربلت

ترجمة: أحمد شافعي

لا أعرف مطلقاً كيف سينتهي هذا.

أعرف كيف يبدأ، وقضيت وقنا كثيرا أفكر في الاستهلال المناسب: في شيء يستدرجك، شيء كابتسامة الترحاب المشعة المجرَّبة على وجه مندوب المبيعات. وبعد ذلك يكون علينا أن ننهي البيعة. وذلك يقتضي نهجا آخر (إقناعك، منع تردد المشتري الذي فيك).

لعل انحيازي للبدايات غريزة باقية بداخلي منذ أيام كتابتي للصحافة التي علمتني أن أجمَّل الكومة بأفضل البضاعة، وليكن أسفل هذه القة أي شيء. لقد نشأت على قياس المقال بالسنتيمتر، ولذلك فمقالاتي أشبه بأثواب القماس لا تكون ذات نهايات مؤسسة بعناية، بل تنتهي حيثما يأمن المرء أذى الحذف.

وليست سلطة الوابل الافتتاحي مقصورة على الكتابات غير الأدبية بأية حال. وتذكروا كل تلك الافتتاحيات القوية في الكتب التي تعرفونها. "الأسر السعيدة كلها متشابها، أم الأسر التعيسة فكلٌّ فريدة في تعاستها"، و"الماضي بلد أجنبي، يفعل الناس كل شيء فيه بطريقة مختلفة"، و" "بعد سنوات طويلة، وأمام الفصيلة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام، لم يجد الكولونيل أورليانو بوين ديا سبيلاً، إلا تذكر تلك الأمسية البعيدة حين حمله أبوه ليرى الثلج". كلها سطور استهلالية. والآن إليكم هذه الجملة: "هذا أمر إن فعلته لكان فيه خير، خير أكبر بكثير مما في أي شيء سبق وفعلته، وهذه بقية لحياتي هي خير من أي بقية يمكن أن أتصورها". ربما يكون عليك أن تحرق عمرا كاملا قبل أن تتعرف على هذه الكلمات الاختتماية بوصفها آخر كلمات في "قصة مدينتين" التي تشتهر بدايتها: "في زمن من أفضل الأزمان، في زمن من أسوأ الأزمان" ثم تمضي من ذلك إلى ما هو أقل شهرة، وكأننا أشد تعاطفا مع بدايات البدايات.

ولعلنا كذلك فعلا، فعلماء اللغة يلاحظون أننا على سبيل المثال نتعرف بقدر أكبر من السهولة على الكلمات إن سمعنا بداياتها مما لو سمعنا نهاياتها. فعقولنا مجبولة في ظاهر الأمر على بدايات الأشياء.

فهل، لذلك السبب، يدخر الكتَّاب خير ما لديهم للبدايات؟ إن لدينا في نهاية المطاف أدبيات هائلة في سيكولوجيا الانطباعات الأولى ـ التي تتشكل في عقولنا تشكل الزئبق ثم سرعان ما تكون لها صلابة الجرانيت. في حين لا نمتلك أدبيات مماثلة في الانطباعات الأخيرة. ولقد نقلت مقالة نشرتها إندبندنت أخيرا عن محكمين في أحد المهرجانات الأدبية قولهم إن البدايات أهم من النهايات. ففي غمار ما نعيشه اليوم من سعار تنافسي بين تيارات التسلية والمعلومات، يلزم للكاتب أن يأخذ القراء "مباشرة إلى قصته بأسرع ما يستطيع". وما هذه بالظاهرة الجديدة قطعا. فالمقتطفات السابقة كانت تهدف إلى جذب انتباه القراء في أزمنة أبسط كثيرا من زمننا هذا.

لكن مع كل ما يحيط بالبدايات من مفرقعات وألعاب نارية، ينصب على النهايات في العادة أكثر الكلام، والجدل، والتفكير في اتجاهات أخرى كان يمكن أن تكون، وما إلى ذلك، فالاستياء من المنتج النهائي يفضي قسرا إلى تغيير كلي (ومن ذلك أن تغيرت نهاية "مستر ريبلي الموهوب" لباترشيا هايسمث مرتين في معالجتين سينمائيتين). ومتى سمعتم آخر مرة عن مجموعة في هوليود مستاءة من بداية فيلم؟

النهايات صعبة. ولكم تقت وقد وصلت إلى عدد الكلمات المطلوب لمقالة معينة كهذه المقالة أن أعلن على طريقة كتاب القرون الوسطى أن "ربة الشعر تعبت". ولكن عليَّ بدلا من ذلك أن أضغط كل شيء في المخرج المرتب العزيز على قلب الثقافة الحديثة. في حين أنني أرى أنني لو تركت لك شيئا واحدا تفكر فيه، أو كثفت بين يديك مجموعة من الأفكار في علبة صغيرة لا تحتمل الجدل، بل هي أكلة جاهزة في متناول العقل، فقد فشلت فشلا ذريعا وذللت أشد ما يكون الذل. ومن البديهي أن الأدب عملية مخلفة، لكنني على الأقل أرى أن المسار المحكم الصارم إلى نهاية محددة يشي بأن الكتابة كلها محض زركشة وزخرفة لأفكار سابقة التجهيز، بدلا من أن تكون الكتابة في ذاتها تفكيرا.

ويكشف التجول عبر الإنترنت عن وابل من الكتابات من قبيل "نهايات فيها نهاية روايتك". وفي هذه الكتابات دروس لا تعدو فضلات من ورش كتابة السيناريو (كيف تجتنتب النهاية التافهة؟) أو نصائح مقتضبة من كتاب متحققين مسترخين في جلسات حوارية مع باريس رفيو. ففي إحدى هذه الجمل يقول جون إرفنج "أنا عادة أبدأ بالنهايات". ويقول فيليب روث "كيف لك أن تبدأ رواية أنت لا تعرف مسبقا نهايتها؟" ولكنه في المقابل لما سئل إن كان يبدأ الرواية فعليا وعنده نهايتها قال "في حدود ما أعرف، أنا أبدأ بالنهاية. فصفحتي رقم 1 قد تتحول في غضون سنة إلى الصفحة رقم 200، إن كانت لا تزال موجودة". وذلك تدجين بالمقارنة مع رواية ريتشارد براوتيغان الصادرة في الستينيات من القرن العشرين بعنوان "الجنرال الحليف من مدينة صور الكبرى". حيث تظل الرواية "تنتهي" لتبدأ من جديد، إلى أن ينهي براوتيغان هذه اللعبة بفقرة ختامية لاعبة يحضر بنفسه فيها: "وهناك من بعد المزيد والمزيد من النهايات: السادسة، والثالثة والخمسون، والخامسة والثلاثون بعد الأربعمئة والتسعة آلاف، نهايات أسرع وأسرع، نهايات أكثر وأكثر إلى أن ينتهي هذا الكتاب بـ 186000 نهاية في الثانية". إغلاق، بسرعة الضوء.

ما كان يشير إليه براوتيغان هو أن لأي سردية ـ سواء في فيلم أو كتاب أو حياة شخص ـ بداياتها ونهاياتها الأدبية، لكنها جميعا نهايت مسامية نافذة إلى بعضها البعض. فنحن نرى الوصول نهاية للرحلة، في حين أن كل نقطة وصول هي نقطة بداية ممكنة. وفي كل قصة نصادفها، ثمة ما كان يحدث من قبل، تماما كما أن الأشياء سوف تستمر في الحدوث بعد أن نتركها. والكتّاب يتكلمون "عن حياة الشخصيات خارج الصفحة" بعد اكتمال القصة. فالكتب تبدأ وتنتهي، لكن القصة تستمر في الاتجاهين.

فـ "الفيلم لا يبدأ" مثلما يكتب الباحثان السينمائيان ديفيد بوردول وكرستين طومسن "بل ينطلق"، ففي حين يحاول الفيلم إدخالك إلى القصة، ينصب اهتمام المشاهد على ما هو آت، وينصب أيضا على ما كان، فهو لا يركز على ما سيؤول إليه كل ذلك، بل وعلى ما كان من أمره سابقا. و"ما من فيلم" فيما يقولان "بقادر على استكشاف جميع الاحتمالات التي تحوم في العقل عند البداية".

ومع ذللك فهناك ـ بحسب ما يلاحظ بوردول ـ تقنية شبه ثابتة للبدايات والنهايات، ولو في أفلام هوليود. ويحكي في مدونته قصة مشاهدة "بيضاء الثلج" مع طفلة في الثالثة من العمر، فلحظة أن تمتطي بيضاء الثلج الحصان مع الأمير ويتجهان صوب البعيد تقول الفتاة "خلاص!"، ويتساءل برودول كيف عرفت الفتاة وهي لم تر الفيلم من قبل أن الفيلم ينتهي؟ فالأفلام لا تبدأ جميعا بشخص آت إلى الكاميرا ولا تنتهي جميعا بشخص يبتعد عنها، ولكن وهذه التقنية ما يكفي من الشيوع لتدل ـ فيما يتصور برودول ـ على أن فيها صدي لعملية إدراكية من العالم الواقعي.

وحتى في أجواء الحياة اليومية العادية، تكون النهايات إشكالية أكثر من البدايات. في دراسة منهكة حول المحادثات الهاتفية عنوانها "استهلال النهايات" يهتم عالما الاجتماع هارفي ساكس وإيمانول شِغلوف اهتماما كبيرا بـ "مكونات الحوارات الختامية" الشائكة. وكما في رواية براوتيغان، ليست هناك نهاية واحدة نمطية بل تيار من "مقدمات النهايات" و"المقدمات المحتملة للنهايات". وقد قال لي شيغلوف مرة إن لحظة تأتي نمطيا في كل حوار يقول فيها شخص "طيب" لكنه يقولها بنرة يسميها سيغلوف بمخطط الانحدار، فتكون إشارة على نهاية محتملة. غير أنه يتحتم على الطرف الآخر أن يشارك في اللعبة. فقد تثير هذه الإشارة في الطرف الآخر رغبة في قول شيء ما قبل النهاية الوشيكة. و"بداية النهاية" مثلما يقول شيغلوف وساكس "قد تفضي بعدها إلى حوار يفوق ما تقدمها". ففي اللغة الإنجليزية العادية، قد تفضي محاولة إنهاء الحوار إلى إذكائه. ولقد لخص شيغلوف الأمر فأحسن تلخيصه: "عليك أن تعمل بجدية على الوصول إلى مع السلامة".

النهايات أشبه بمصب نهر عظيم، حيث كل تفريعة ملتوية تكون تبددت، وحيث كل رافد يكون قد أفرغ ما في جعبته في المجرى الرئيسي، حيث كل منفصل امتزج، وحيث يجنح القارئ في خليج التذكر الطيني (وما أكثر الدراسات السيكولوجية التي توصلت إلى أن إجمالي معدلات تجاربنا يتأثر بقوة بالنهايات). وتلاحظ الباحثة الإيطالية غيليانا أدامو أنه "لو أن الاستراتيجيات السردية للبداية تؤكد سفر القارئ من العالم الحقيقي إلى العالم الخيالي، فاستراتيجيات النهاية تؤهل القارئ للانتقال من الكون الروائي إلى الحياة اليومية".

وقد تؤدي بداية جديدة إلى اضطراب مسار الجمهور كما لو كانت مرتفعا فيه. كما في "لم أكن أريد أن أنتهي!" وهناك من بعد مشلكة الاحتمالات المعذبة التي تثيرها بداية القصة، فقد لا يكون ثمة إلا احتمال لنهاية واحدة ـ منتخب من بينها بقسوة في الغالب. فالترتيب قد يكون أشد إيلاما من الغموض. وقد كتب ناقد ذات مرة عن HBO يقول "إنني لا أزال أحب هذا المسلسل" صحيح أنه "بوليسي حقا" و"لكنني كنت أفضل لو لم يكن لهذا المسلسل بالذات من نهاية".

لا أعرف إن كنا أكدنا أكثر مما ينبغي على القوة التحويلية الكامنة في النهايات. فزوجتي، مثلا، كثيرا ما ترمي الكتاب متذمرة من النهاية. وأجد في صوتها نبرة من تعرضت للخيانة، وكأنما توصلت هي والكاتب إلى تفاهم معين حول الكيفية التي سوف ينتهي بها كل شيء ثم خذلها الكاتب.

وهناك من بعد نقطة يصل فيها القارئ إلى ترقب النهاية، حتى لقد شاعت عبارة "حرق الأحداث" شيوعا جعل مقالة حديثة في "الدراسات العلمية للأدب" تشير إلى أن معرفة نهايات القصص قد تجعلنا أكثر حبا لها، إما لأنها تجعل متابعة القصة أيسر أو لأنها تمنحنا مزيدا من الوقت للانتباه إلى أشياء ربما تكون فاتتنا في مسيرنا الجبري إلى اكتمال السردية. وقد أثبتت هذه المقالة فرضيتها بمجرد نشرها: فهي نفسها حرقت أحداثها، حيث نشر مؤلفوها نتائج دراستهم في مقالة شاعت شيوعا كبيرا عام 2011.

يقول فرانك كيرمود في "حس النهاية". إنه "ليس من الممكن، قطعا، إنكار حق النهاية علينا" فـ "من أعظم مباهج الكتب أنها لا بد أن تنتهي". حتى لو انتهي الكتاب في الغالب على ما يصفه هنري جيمس بـ "التوزيع الختامي للجوائز والمنح والأزواج والزوجات والمواليد والملايين والفقرات التكميلية والإشارات المبهجة".

ولعل مشكلتنا مع النهايات تنم عن مشكلة أكبر، بل عن المشكلة الكبرى في واقع الأمر: ما النهاية لكل شيء؟ يقارن كيرمود بين الإيمان الديني بالآخرة وتجربة القراءة، مشيرا إلى أن الحبكة التي تنطلق قدما باتجاه النهاية "الدقيقة التي نلنا طرفا عنها" هي حبكة إشكالية شأنها شأن التنبؤات التبسيطية بنهاية العالم التي لا تتحقق مطلقا. فالرب، شأن أي كاتب ماهر، يبقي القارئ في حالة تخمين. أما العلم، مثلما لاحظ كرستوفر هتشنز مرة، فلديه خط درامي أدق، فلديه على سبيل المثال موعد تقريبي لتوقف الشمس عن الوجود. لكن حتى لو أمكنا التنبؤ بهذه النهاية، فهناك مشكلة أخرى: أي جمهور ذلك الذي سوف يكون حاضرا نهاية العرض؟

يستشهد هتشنز بالفزيائي مارتن ريس: "لن يكون بشرا من يشاهدون هلاك الشمس بعد ستة بلايين سنة من الآن. فالكائنات التي ستكون حاضرة ستكون مختلفة عنا، اختلافنا نحن عن البكتريا أو الأميبا".

ولا زلت أجهل كيف ينتهي هذا المقال. لكنه ينتهي. ولا ينتهي.

*عن نيويورك مغازين