الثلاثاء 26 أغسطس 2014 / 23:27

الاستدراك على موت سميح القاسم



1-
وصل اسم سميح القاسم الى الرأي العام الثقافي والوجدان العربي ضمن قائمة.

القائمة نفسها وصلتْ دفعة واحدة مثل قافلة منتظرة، ومحملة ببشائر الشعر السفير للجرح الفلسطيني الغائر .

نعم، لم يصل سميح أو غيره إلى القارئ بمفرده، فلقد حطّ مع سرب الطيور المهاجرة، ولكن دون أن يغادر فلسطين.

هكذا وصل الشعر الفلسطيني مهرّباً عبر حواجز المنع الصهيونية، في زمن لم توجد فيه وسائل اتصال حديثة أكثر من الصحف البطيئة التوزيع، أو البريد المسجّل أو السريع، أو المحطات الإذاعية أو التلفزيونات الأرضية المحدودة الانتشار.

في البداية، لم تختلفْ حالة سميح عن أحوال أصحابه: محمود درويش وتوفيق زياد ومعين بسيسو وفدوى طوقان وغيرهم، فكلهم أصوات مهمّة، وكلهم طيور استثنائية، فهم من فلسطين المحتلة، وحين يولد الشاعر تحت احتلال شرس، يكون وضعه خاصاً ويصبح معضلة فلسطينية خالصة، ولهذا، سعى "غسان كنفاني" منذ البدء إلى تقديم هذه الأصوات بحسّ صحافيّ وثقافيّ ونضاليّ معاً، فخصّ هذه الأصوات بكتاب تعريفيّ مستقل عن شعراء فلسطين المستقلة.

2-
كان الرأي العام الأدبيّ العربيّ ينظر، سلفاً، بإعجاب إلى شعراء الأرض المحتلة، فالقراء يتشمّمون هذا الشعر بحثاً عن رائحة الفدائي، كما تتشمّم أمٌّ ثيابَ ابن غائب، وكان هؤلاء الشعراء موضع ترحيب من الجميع، فقد احتفى بهم الشاعر الشهير الكبير نزار قباني في قصيدة حملت اسمهم: "شعراء الأرض المحتلة ".

ملاحظة : في المقطع الرابع من قصيدته، سمّى قباني الشعراء الذين توافق اسمهم مع تفعيلة الخبب، مما اضطرّته الضرورة الوزنية إلى إضافة (ال) التعريف إلى لقبَيْ درويش وزيَّاد، ولعل نزاراً، لهذا السبب العروضيّ، لم يذكرْ سميح القاسم.

" محمودَ الدرويش .. سلاما
توفيقَ الزيّاد .. سلاما
يا فدوى طوقان .. سلاما
يا مَن تبرونَ على الأضلاعِ الأقلاما ..
نتعلّمُ منكم، كيفَ نفجّرُ في الكلماتِ الألغاما ..
شعراءَ الأرضِ المحتلّهْ ..

إلى أنْ يختمَ هذا المقطع بمبالغة نهارية مألوفة حين قال :
لو أنَّ الشعراءَ لدينا ..
يقفونَ أمامَ قصائدكمْ ..
لَبَدَوْا .. أقزاماً "

وفي مصر، سوف يُبشّرُ الناقد رجاء النقاش بمحمود درويش ويفرد لتجربته كتاباً في سلسلة "كتاب الهلال" الشعبية في وقت مبكّر سنة 1969 .
وسيبدأ سرب الطيور الشاعرة في فرز الأصوات الأكثر قدرة على الوصول إلى الناس، والخروج من القفص الصهيوني. وهكذا انتهى الشعر الفلسطيني إعلامياً إلى هذا النجم الثنائي الشهير في سماء الشعر الفلسطيني: سميح القاسم ومحمود درويش.

3-
الحديث عن سميح أو محمود يستدعي السؤال المرٌ
هل أنت شاعر أم فلسطيني ؟
وكان هذا السؤال مصدر الأرق الأوّل لمحمود درويش الذي عاش يغالب هذا السؤال الذي يخفي لؤماً خاصّا ضدّ كل ما هو فلسطينيّ بما تعنيه هذه القضية من جرح يرفض أن يندمل أو يساوم مع احتلال قاتل وغاصب وشرس .

فهل يستكثر باقي العرب على الفلسطينيّ أن يكون شاعراً؟ وكأنه لا يجوز الجمع بين الاثنين، أي أن تكون شاعراً وفلسطينياً معاً !
لكنّ هذا السؤال تجاوزه سميح القاسم، وكأنه لا يملك الوقت الكافي للإجابة عن هذا السؤال المترف "البرجوازيّ" المخمليّ .

كيف تكون شاعرا أوّلاً وفلسطينياً أولاً أيضاً؟
كانت هذه مشكلة ولعنة اشتكى منها درويش طوال حياته، ولكن لم تشكّلْ معضلة بالنسبة لسميح الذي لم يكن لديه وقت كاف للالتفات إلى النقاد وكلامهم القريب أحياناً من مستوى صحافة الإثارة .

4-
كانت سياسة سميح مختلفة عن صديقه محمود، وكان عليه أن يكون الشاعر الشاهد على الجريمة الصهيونية، وعلى العقاب الفلسطيني، وكان على هذا المجاهد الصحافي أن يشحذ قلمه لكتابة القصيدة، والمقالة، والقصة الشعرية (سربية) والأغنية، وكان عليه أن يكون الحادي والمتحدي الشادي، لا النواح والنادب والمعدّد لخصال الشهداء من أبناء فلسطين .

في هذا الخضم، لم تكن القضية الجمالية منسية عند سميح، بل إنّ جمالية المباشرة قد اغْتنتْ مع نوع القصائد التي كان يلقيها سميح أمام جمهوره العربي العريض، وكان عليه أن يوجد صياغة جديدة لهذا التناقض الجدليّ بين الجمالي والدلالي. فهل ضحّى سميح القاسم بالجوانب الجمالية في القصيدة لصالح الضرورة الدلالية؟

وهل صار على الشاعر أن يكتب ما يطلبه المستمعون أم إنه موظّف هنا وهناك :
هنا لدى المتلقي وهناك في دولة الشعر .

5-
إن أهم ما اشتغل عليه سميح القاسم، خلال سبعين إصداراً، هو هذا الجهد الثقافي من أجل الحديث عن التحدي والتصدي والمقاومة والنصر .
إن الكمّ الهائل من الكتابات يحسب لسميح الذي طرق أبواب الإبداع الكثيرة، فكتب الرواية والسربية (جنس شعري خاص بسميح القاسم ويعتمد على الصراع في الحكاية الشعرية) وكتب التأملات، والكولاج الشعري، ولجأ إلى كل الأسلحة الشعرية، فكان يعود بين حين وآخر إلى كتابة شعر التفعيلة، ويلجأ حيناً إلى نظام الشطرين (العموديّ).

6-
إنّ رحيل سميح يحمّل الجميع مسؤولية إطالة عمره، وهي ملقاة على عاتق الجميع من نقاد وباحثين وموسيقيين ومسرحيين، فلا مناص من الاستدراك على موت سميح حتى يستأنف الحياة من جديد، ولا سبيل إلى هذا بغير النظر في مدونته الغزيرة، فسميح القاسم من كبار شعراء فلسطين، وهو أيضاً من أوليائها الصالحين.