(أرشيف)
(أرشيف)
الأحد 20 مارس 2022 / 10:25

لعبةُ الحربِ الإعلامية

جمعة بوكليب - الشرق الأوسط

كلما ازدادتْ معاركُ الحربِ سخونةً في الميادين، يرتفع حِدّةً ضجيجُ أُوراها في وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي. وفي المابين تُخفى عمداً الحقائق، وتصبح الحقيقةُ ضحية تضاف إلى قائمة طويلة جداً من الضحايا، الذين بدورهم يفقدون أسماءهم وهويّاتهم، ويصيرون أرقاماً تسجل وتنشر في إحصائيات عقب نهاية الحرب.

الحربُ الحاليةُ التي تدور رحاها فوق الأراضي الأوكرانية منذ قرابة شهر، لا تختلف عما سبقها من حروب. اللافت للاهتمام، أن الحرب الأوكرانية بدأ قرع طبولها في وسائل الإعلام الغربية قبل أن تُضرم نيرانها فوق الأرض وتحت السماء. تلك الحرب الإعلامية، من الجهتين، وصلت لدرجة من التضليل غير مسبوقة، وإن كانت أكثر وضوحاً في الغرب، نتيجة لحجب وسائل الإعلام الروسية عن القنوات في البلدان الغربية. وصار من الصعوبة بمكان حتى على المتابع الواعي فرز الحقائق من غيرها، فيما ينشر ويبث من أخبار، فما بالك بمواطن عادي، يبدأ وينتهي نهاره، وهو يتعرض لقصف إعلامي لا يتوقف، موجّه نحوه من آلة إعلامية ضخمة.

يوم الأربعاء الماضي، وبشكل مفاجئ، حدث تغيّر في اتجاه مسار تلك الآلة الإعلامية الضخمة في بريطانيا، أولاً، ثم في غيرها من البلدان الغربية، خرج بها 180 درجة عن مسارها المعهود في متابعة الحرب الأوكرانية، ونقل تطوراتها أولاً بأول.

والسبب، قيام إيران، أخيراً، بالإفراج عن مواطنين بريطانيين (رجل سبعيني وامرأة) مزدوجي الجنسية، من السجن في طهران، اتهما بالتجسس، رغم إنكارهما للتهمة. قطعت وسائل الإعلام البريطانية فجأة برامجها المعتادة، في نقل وقائع الحرب الأوكرانية، وتحوّلت إلى نقل وقائع الإفراج لحظة بلحظة، ومتابعة تنقلات المفرج عنهما منذ مغادرتهما السجن. واحتل شاشات القنوات التلفزية معلقون بوجوه وسحنات مختلفة، عن تلك التي عهدناها خلال الأسابيع الماضية، واختفت كلية الخرائط العسكرية، وغاب المعلقون العسكريون، طيلة ذلك اليوم واليوم التالي.

طبيعة خبر الإفراج المفرحة، وطريقة تعامل الآلة الإعلامية البريطانية معه، بدت وكأن بريطانيا سجلت نصراً استثنائياً. والحقيقة التي لا مفرّ لنا من التعامل معها، هي أن ذلك النصر لم يكن مائة في المائة من صنع بريطاني، كما أظهرته وسائل الإعلام. كما أننا واقعياً لا نعرف على وجه الدقة الأسباب التي دفعت بحكومة طهران إلى الإفراج عن السجينين في هذا الوقت تحديداً.

المقصود بذلك، ليس موافقة الحكومة البريطانية على شروط إيران، ممثلة في الإفراج عن مبالغ مالية دفعتها إيران في زمن مضى مقابل صفقة أسلحة، ولم يتم تسليمها من قبل بريطانيا. وفي رأيي الشخصي، فإن اختيار توقيت الإفراج، في هذا الوقت تحديداً، كان توقيتاً إيرانياً وليس بريطانياً، لم يأتِ صدفة، بل كان مقصوداً، وبهدف إحداث ضجة إعلامية كبيرة لا يمكن تجاهلها، كفيلة بتخفيف الضغوط الإعلامية الشديدة على الحليف الروسي في موسكو، حتى لفترة زمنية محدودة.

المتابعون لقضية السجينين البريطانيين في طهران على علم، ودراية، بلا شك، بتطورات المفاوضات بين الحكومتين المتعلقة بالإفراج على الأموال مقابل الإفراج على السجينين. وكان من الممكن على حكومة طهران تأجيل عملية الإفراج حتى نهاية الحرب، لأنها ليست في عجلة من أمرها.

وبالفعل، نجحت تلك المناورة في تحقيق الهدف المقصود. وعلى سبيل التذكير، اختفت الحرب الأوكرانية من الصفحات الأولى في كل الصحف الصادرة في اليوم التالي للإفراج، وتركت مكانها لصور السجينين والتقارير الصحافية ذات الصلة بسجنهما وبهجة الإفراج عنهما، ورحلة العودة... إلخ ولتحليلات المعلقين. ومن المحتمل جداً أن القيادات الروسية في موسكو شعرت بشيء من راحة، وهي ترى وتتابع وسائل الإعلام الغربية وقد انحرفت بمسارها إلى جهة أخرى عما يحدث في أوكرانيا.

القولُ بإمكانية حدوث الأمر محض صدفة، أمرٌ محتمل، لكنّه، في نظري، ضعيفٌ جداً. والسبب، أن مفاتيح أبواب السجن كانت في يد حكومة طهران، وهي وحدها مَن تقرر ما إذا كانت ستفتح تلك الأبواب الآن أم تؤجل فتحها إلى فترة زمنية لاحقة. واختارت فتحها في هذه الفترة لتحقيق غايات قد لا تبدو واضحة حالياً، والزمنُ كفيل بكشفها.