السبت 6 أغسطس 2022 / 13:15

‎معجم الإسلام السياسي.. حاجة جوهرية لاستئناف الحضارة العربية

كان لافتاً أن تعمد حركة طالبان، بعد إحكام سيطرتها من جديد على أفغانستان، إلى إصدار بيانها التأسيسي الجديد باللغة العربية. وهذا البيان الذي أصدره الشيخ عبد الحكيم الحقاني قاضي قضاة طالبان، وقدمه أمير إمارة أفغانستان الإسلامية الشيخ هبة الله أخندزاده، يقع في 312 صفحة ويحمل عنوان "الإمارة الإسلامية ونظامها" ويهدف إلى مخاطبة الداخل والخارج حول شكل "الدولة" الجديدة، وهو ما جعل محللين يكتبان مقالاً في مجلة "ذا دبلومات" الأمريكية يتساءلان فيه "هل لدى طالبان طموحات وطنية خارجية؟"، بعد أن لفت انتباههما أن "البيان" ليس مكتوباً بأي من لغات وسط وجنوب آسيا حيث توجد حركة طالبان جغرافياً، خاصة أن أنشطتها ـ بالنظر إلى طبيعة النسيج الاجتماعي لأفغانستان ـ مقصورة على الداخل الأفغاني فقط.

‎لكن تفسير ذلك، قد يتجاوز فكرة "الطموحات الخارجية"، إلى الطموح العام للجماعات المتشددة، فعند مراجعة المعجم اللغوي لهذه الجماعات، يتضح جلياً سعيها إلى اختطاف اللغة العربية، وتوظيفها أيديولوجياً، وربطها ذهنياً بتوجه ثيوقراطي، وتفريغها تماماً من حمولتها التاريخية والثقافية.

‎ويتشابه هذا مع بعض ما فعلته وتفعله التنظيمات المتطرفة من خلق هوية بصرية لها، ورموزاً تخصها، وقد ساعد انتشارها في مواقع التواصل الاجتماعي على تعزيز تلك الهوية بكافة اللغات. ولعل شعار تنظيم داعش الإرهابي الذي يتضمن "خاتم الرسول" أبرز دليل على ذلك، فمع البث المتواصل لأخبار التنظيم الإرهابي عبر كافة المنصات الإعلامية في العالم، سيربط المتلقي بين "الخاتم" وداعش، وبين الرسول وبين من يحملون رمزاً يخصه، لكن مع الوقت سيختفي البعد التاريخي للشعار، ولا يبقى غير انتمائه للتنظيم. إنه اختطاف مشابه لما فعلته وتفعله تلك التنظيمات مع اللغة العربية.

‎وعند القراءة المتأنية للخطاب اللغوي للجماعات الراديكالية عموماً، يتضح أنها تركز على أربعة أمور: أولها: محاربة اللهجات، رغم أنها جزء من الثقافة العربية، بل إن هناك أحاديث مروية عن الرسول الكريم بلهجات عدة. وثانيها: تصدير لغة مغلقة، ليست ابنة العصر الراهن، عبر النبش في بطون الكتب التراثية المجهولة، وغير المحققة. وثالثها: حصر معجمها اللغوي في عدد من الكلمات يتمحور حول الجهاد والمرأة. ورابعها هو التلاعب بالألفاظ من أجل تزييف معاني الكلمات، فيصبح القتال ـ أي قتال ـ غزوة، ويضحي إرهاب الآمنين "جهاداً"، ويغدو الكذب والخداع "تقية".

‎ويكاد المعجم اللغوي الضيق الذي تتبناه التنظيمات الراديكالية في خطابها، وتستخدمه في دعايتها الإعلامية يكون واحداً، وتظن عبره أنه يعطي مشروعها "مشروعية"، أو يربطها أكثر بالإسلام ويثقل كفتها أمام عوام الناس. ولا فرق في استخدام هذا المعجم بين القيادات أو القواعد، فجميعهم يستخدمون نفس المصطلحات، وكأنهم آلات مبرمجة على الحفظ لا الفهم.

‎وأمام هذا التحدي الذي كان مؤسس تنظيم الإخوان الإرهابي حسن البنا ومن بعده سيد قطب، قد رسخاه باكراً عبر توظيف اللغة ركناً أساسياً في آلة التنظيم الدعائية، نجد أن الحاجة تدعو أكثر فأكثر إلى حصر تلك المصطلحات، ورصد التغير الدلالي الذي طرأ عليها، والتوعية بخطورة انتشارها وذيوعها، خاصة أنها تُحمّل بحمولات دينية توظف على خلاف دلالتها التاريخية والدينية، ومن هذه المصطلحات نذكر مثالاً لا حصراً: "التكفير، أهل الذمة، البيعة، التكليف، الإسلام هو الحل، الأصولية، الحاكمية، الأستاذية، التعطيل، الولاء والبراء، ولاية الأمر، فقه الأولويات، الفسوق، المذهبية، الردة، الحسبة، الخلافة، الخوارج، دار الحرب، الجاهلية، الجماعة، التبليغ، الجهاد".

‎وإذا كان يمكن الوعي بخطورة هذا "الاختطاف" عربياً، كوننا نتحدث هذه اللغة ونعرف انها أوسع من الثقب الذي يريد الراديكاليون أن يحشروها فيه، فإن الخطر الأكبر هو تصدير هذا المعجم إلى اللغات الأخرى، إذ يفرغ اللغة العربية من مضمونها ومن حقيقتها كلغة حضارة وعلم ومعرفة، ويحول أمام العالم كله إلى لغة إرهاب، إذ يكفي أن يسمع غير ناطق بالعربية كلمة "جهاد"، أو "الله أكبر"، أو "نقاب"، أو "إمام" ليعرف أنه امام خطر يحيق به، وهكذا تفرغ العربية مع الوقت، ومع الضخ الإعلامي المستمر، من ثقلها الحضاري والمعرفي وتتحول إلى لغة مرتبطة بالعنف.

‎وهذا المعجم "الإرهابي" يقدم العربية للعالم على أنها لغة إرهاب وتطرف وعنف، مع أننا لو عدنا للوراء قروناً قليلة لوجدنا المفردات العربية التي دخلت لغات العالم مختلفة تماماً. فقد كانت العربية طوال تاريخها لغة تعايش وتسامح وتواصل وحضارة وأدب وثقافة وعلوم. وكانت شعوب الأرص تتسابق لتعلمها كي تستفيد من علومها، كما كانت اللغات الأخرى تمتح وتستفيد منها، وهو ما لخصه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بقوله إن العربية "استطاعت أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر، وأدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، فهي من أنقى اللغات، وتفرّدت بتفرّدها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي".

‎ويعيدنا هذا إلى سيموطيقيا الإرهاب الهادفة إلى أسر اللغة العربية، وما يتطلبه ذلك من دور مهم وضروري لمجامع اللغة في الدول العربية، والمراكز البحثية المتخصصة، عبر إعداد معجم للمصطلحات التنظيمات المتطرفة، يحصرها ويفضح زيفها، ويكشف الإيديولوجية المتشددة وراء استخدامها، ويوعي المتلقين، لا سيما صغار السن، بتحريف الكثير من المصطلحات وخلق معانٍ جديدة مضللة، كما أنه يجب تقديم المعجم بلغات مختلفة موجهة للقارئ الغربي، لتوعيته بحقيقة تلك المصطلحات التي أدخلتها التنظيمات الإرهابية في الخطاب الإعلامي.

‎وتلعب دولة الإمارات دوراً كبيراً، ليس فقط في التوعية بالعربية ودعمها، بل في تطوير هذه اللغة، وإعادتها إلى دورها الحقيقي، وتحريرها من أسر الماضي وظلامه، وإعادتها لغة حضارة مرة أخرى، وليس أدل على هذا من دعوة الشيخ محمد بن راشد إلى "استئناف الحضارة"، الذي سيضمن للعربية، استئناف مكانتها الحقيقية كلغة حضارة وعلم وأدب لا لغة إرهاب وقتل وتفجير. كما لابدّ من التوقف عند الجهد الكبير للشيخ الدكتور سلطان القاسمي بإطلاقه المعجم التاريخي للغة العربية، وهي جميعها جهود تنسجم مع مراجعة الخطاب الديني في مصر أو مراجعة الحديث النبوي في السعودية، مما يؤشر إلى التنبه الكبير بمحورية اللغة ضمن أي مشروع يريد حقاً التصدي للخطاب الإرهابي المتطرف الذي عانت ولا تزال تعاني منه المنطقة العربية والعالم.

‎لقد شدد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، من قبل على أن "الإعلام الواعي والمسؤول قادر على إحداث التغيرات الإيجابية في المجالات كافة التي تهم أفراد المجتمع، فهو صلة وصل مهمة وفاعلة بين الناس والمسؤولين"، ومن هنا أؤكد أن الدور المنوط بالإعلام للتوعية ولتحرير "اللغة العربية" من أسر التنظيمات الإرهابية كبير، ويجب أن تتضافر جهود جميع المؤسسات الإعلامية والثقافية والبحثية العربية لتحقيق ذلك.

‎ينبغي أن تكون هناك سياسات واضحة أمام مراكز اللغة والمجامع ، مدعومة بتوجهات واستراتيجيات لتعزيز مكانة اللغة العربية عالمياً، ويكون من أبرز أدوارها وطموحاتها المساهمة في تحرير اللغة العربية من أسر الخطاب المتشدد لها في العواصم الغربية. ومن اللافت هنا وصف جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي بباريس اللغة العربية بأنها "كنز فرنسا"، مميزاً بين ما يراه الغربيون عن حق من توظيف أيديولوجي لهذه اللغة، وبين الأبعاد الحضارية لهذه اللغة.

‎إن دفاعنا عن اللغة العربية، ليس لأنها لساننا المبين فقط، بل لأنها تحمل في طياتها تاريخاً وثقافة غيرت العالم كله، وأفادت الإنسانية جمعاء. إنها ليست فقط من أقدم لغات العالم، بل هي أساس الحضارة العربية وحاملة سرها، أو كما قال شوقي:

‎إن الذي ملأ اللغات محاسناً
‎جعل الجمال وسره في الضاد

‎وفي إطار جهود الإمارات الحثيثة في حقل اللغة والثقافة، نشير إلى تقرير حال اللغة العربية الذي صدر عن وزارة الثقافة الإماراتية، وقدم صورة شاملة عن التحديات التي تواجه هذه اللغة في الوقت الراهن، وواقعها في المناهج التعليمية والإعلام وغيرهما الكثير من المجالات، وقد أشار هذا التقرير إلى مجموعة من القوانين الراسخة في الدساتير العربية حول اللغة ودورها، لكن يبقى المهم الإفادة من هذه القوانين وتطويرها لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، لاسيما وأن الدراسات تشير إلى أن عدد المتكلمين بالعربية حول العالم سيصل إلى 600 مليون شخص خلال السنوات المقبلة، وهذا يدعو إلى تكثيف الجهود وتوحيدها حتى لا تبقى العربية لغة تواصل اجتماعي فحسب بل لغة اقتصاد وعلوم وفنون، وأيضاً مواصلة المشاريع القادرة على النهوض باللغة العربية وعدم السماح باستغلال الجماعات المتطرفة، وعلى رأس هذه المشاريع "معجم الإسلام السياسي" الذي أشرنا أعلاه إلى ضرورة إعداده، والذي من شأنه فضح زيف الجماعات الإرهابية، وحرمانها من أداة أساسية في دعايتهم الأيديولوجية، وإعادة اللغة العربية إلى أبنائها، بوصفهم أبناء حياة ومستقبل وليسوا أبناء موت ودمار وتشدد وظلام.