الخميس 1 يونيو 2023 / 09:06

الهوية وسؤال الاقتصاد: قراءة في الانتخابات التركية

يوسف الديني- صحيفة الأيام البحرينية

حسم الناخبون الأتراك قرارهم وفاز الرئيس أردوغان الذي حصد 52.14%، بولاية ثالثة حتى 2028، هي الأخيرة له بموجب دستور البلاد الذي يمنعه من الترشح لولاية رابعة.

ولا يمكن الحديث اليوم عن الانتخابات كحدثٍ بقدر المفارقات المتصلة بالنتيجة التي لا تعكس حالة التذمر السابقة من الاقتصاد التركي، وانخفاض قيمة الليرة إلى درجة توقع إقالة الرئيس أردوغان بعد الأزمات المتتالية، لكن ما حدث أظهر بجلاء مرونة الأحزاب القائمة على أيديولوجية وشعارات طوباوية على تنحية الاقتصاد والتنمية بعيدًا عن التأثير على صناديق الاقتراع، رغم أنها قد تؤثر عليه وبشكل سلبي كما حدث مع تراجع الليرة التركية إلى 20.05 مقابل الدولار مع إعلان الفوز.
معظم المعارك الانتخابية اليوم لا تدار على الأرض، فحضور الدعاية الانتخابية الرقمية أصبح كبيرًا ولا يمكن التشكي من السيطرة الإعلامية غير الرسمية، فضلاً عن الاستعانة بأصدقاء الخارج المؤثرين خصوصًا في التسويق للمنافسة الديمقراطية على أنها مسألة حق وباطل وليست خيارات انتخابية، وهو ما يعيدنا مجددًا إلى أزمة حقيقية في الشكلانية الديمقراطية «الصندوقراطية» والتي من المفترض أن ينحاز الجمهور فيها إلى الاختيار بين البرامج الانتخابية، ومنها ملف الاقتصاد وتحسين المؤسسات ولو على شكل وعود وليست معارك الهوية والمهاجرين، وهو ما يعني قراءة كل تجربة سياسية في سياقها الخاص أو ما تُعرف في الأدبيات السياسية بمعضلة السلوك الانتخابي وتأرجحه بين الهوية والانتماءات المناطقية والدينية والأيديولوجية وتأثيرها على الولاء السياسي، حيث الحفاظ على القاعدة الانتخابية لا يحتاج إلى أبعد من الشعور بالخوف على الذات لا المستقبل، وهنا مفارقة ثانية فحزب «العدالة والتنمية» ظهر كمنقذ من سؤال الاقتصاد والمستقبل، بعد تعثر الاقتصاد وآثار الزلزال المدمر، وفشلت الحكومة الائتلافية لأجاويد في إنقاذ الوضع، وبعدها في 2002 برزت نجومية «العدالة والتنمية»، ليس بسبب سؤال الهوية أو الشعارات، وإنما من خلال الإجابة عن سؤال الاقتصاد والبحث عن الاستقرار عبر هدنة مع الفرقاء وحتى الخصوم، ومنهم حزب العمال، وهو ما بلغ أوجه في 2010 مع معدلات نمو كانت مثيرة للإعجاب حتى في الأطروحات الغربية.
لم يستمر الحال منذ ذلك الصعود، لأن الحزب ذاته تخلَّى عن سؤال الاقتصاد، وحاول القيام بإجراءات اقتصادية تعزز سؤال الهوية وتلبّي طموحات الشعارات وفلاشات الشعبوية، فكانت النتيجة ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الفائدة، وجاء الزلزال ليعمّق الفجوة الاقتصادية بشكل كبير مع تذمر من التعامل مع الأزمات بدا واضحًا في جغرافية الناخبين.
اليوم يتساءل الغربيون وبالأخص مراكز الأبحاث وخزانات التفكير ووكالات التحليل، لتقدير الموقف، عن الفوز ولو بفارق ليس كبيرًا مع تحديات هائلة على مستوى الملف الاقتصادي وإدارة الأزمات، وجاء عنوان «فورن بوليسي» مشككًا في مقولة جيمس كارفيل، المستشار الاستراتيجي لحملة كلينتون ذائعة الصيت: «إنه الاقتصاد يا غبي»، وتحولت لاحقًا إلى عناوين مقالات وكتب ودراسات تؤكد تأثير الاقتصاد على ما عداه من النظريات إلى الشعارات وما بينهما، وهو تفسير -حسب التحقيق- تبسيطي مبنيٌّ على اختزال كبير للتحليل الماركسي للبنية التحتية التي تقوم بتشكيل كل البنى الفوقية ومنها السياسية.
اليوم هناك اتجاهات كبيرة في محاولة قراءة سلوك الناخبين على ضوء الشعارات وملف الهوية، خصوصًا في أحلك الأوقات الاقتصادية قتامة، ويمكن هنا مراجعة الأطروحة المهمة جدًا التي طرحها المؤرخ الفرنسي والفيلسوف السياسي البارز مارسيل غوشيه في كتابه المهم «الدين في الديمقراطية»، حيث ناقش إشكالية مسألة الهوية والشعارات الدينية وعلاقتها بالسياق السياسي كإشكالية بدأت منذ البدايات مع اليونان، ولم تختفِ حتى في عصور التنوير الأوروبية، بل تم استبدال المرجعية الدينية والهوياتية بالآيديولوجيا، ولم تنجح عمليات تمدين الحالة السياسية ومأسستها بعيدًا عن الشعارات وانطلاقًا من مبدأ المصلحة العامة، والتي بالمناسبة لها تأصيل في غاية الأهمية لدى فقهائنا الأوائل لا سيما المقاصديون منهم، وهو ما بات مفقوداً اليوم في الشكلانيات الديمقراطية بحكم أن الفصل بين الحقل المدني والسياسي والديني والثقافي يكاد يكون مستحيلاً في سياقات خارج التجربة الفرنسية، أو ما وصفه روسو بـ«السيادة المطلقة» ووصفه غوشيه بـ«الحياد الديمقراطي».
نعيش اليوم عصر الهويات كما تؤكده هذه الأطروحة وغيرها كثير، فهناك روابط بين الأفراد والفضاءات الاجتماعية لا يجمع بينها سوى تحالف الهويات الصغيرة، وليست بالضرورة تعبيرًا عن التعددية السياسية والانتخابية أو ديمقراطية الهويات، حسب غوشيه.
النتائج التركية اليوم كانت متوقعة في سياق مسألة انفجار الهويّات الصغيرة والفرعية، متى ما عجزت أي دولة مهما كان نظامها السياسي عن الاستثمار في أمرين: المواطن والبنية التحتية والمؤسسات، وليست الكوتة المبنية على محسوبية الناخب في النظام الهجين المتأرجح بين الرأسمالية والاتكاء على الهوية التاريخية.
النموذج الذي تحتاج إليه المنطقة اليوم منشود في التجربة السعودية الصاعدة بدمج الرؤية في بنية التشريعات والمؤسسات في الدولة والاستثمار في المواطن، وتحويل الهوية والثقافة إلى رساميل ثقافية مرتبطة ببنيتها الاقتصادية وأدائها، مع تعظيم مسألة المحاسبة والشفافية والهدر للمال العام، ومكافحة الفساد، كما هي الحال في تحويل الهويات الصغيرة إلى عوامل جذب تنافسية تصب في الهوية الأم «المواطنة».