نضال القاسم في الصبا وحالياً مع عدد من إصداراته الشعرية (24)
نضال القاسم في الصبا وحالياً مع عدد من إصداراته الشعرية (24)
الأربعاء 29 نوفمبر 2023 / 16:39

الأديب نضال القاسم لـ24: طريق الكتابة رحبُ الآفاق ويجمع بين التعب والمتعة

"ذاكرة الطفولة" زاوية نضيء فيها على طفولة أديب عربي، نصغي لأولى تجاربه ورؤاه، أول أفراحه وأحزانه، نمخر عباب مرحلة، بصماتها خالدة في أعماق الذات، وتتسرب لأطراف الأصابع، عبر النتاج الأدبي بين لحظة وأخرى.

القاسم: أبي معلمي وملهمي وله الفضل في تشجيعي على الكتابة

المطالعة والشطرنج وجمع الطوابع هواياتي منذ الطفولة

 قراءة الذات بداية المعرفة والثقافة قيمة إنسانية ترتقي بالمجتمع والإنسان

زوجتي ملهم أساسي في تجربتي وطاقة أستمد منها كينونتي وتسامحي وأملي في الحياة

يقول الشاعر والناقد الأردني نضال القاسم: "كانت أمي بكل شمائلها أحد مصادر مخيلتي، وأحد مقومات بداياتي الشعرية، وهي تمثل بالنسبة لي الحنان الدائم، فهي عنوان العطف وشجرة العطاء، فيها تتجلى الإنسانية، وفيها يُخلق الحب، وهي نبع الحياة والنور، وأنا مدين لوجودها الذي قوّى ثقتي على احتمال الحياة، أمي الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب هي التي أسهمت في تكويني الثقافي والإنساني، وهي قصيدتي الأولى، وصديقتي الأولى، والبئرُ الأولى التي ما زلت أنزح منها، وأجد هذا الحوار فرصة مناسبة لأجدد لها أعمق الشكر وأعمق العرفان بجميل لا يمكن أن أنساه".

معلمي وملهمي

وفي حوار خاص لـ24 يضيف "أما أبي يرحمه الله فقد كان بأكثر من معنى، كان رجلاً وسيماً أنيقاً، محباً للحياة، كما أنه كان مؤمناً بالله وذا قلب رقيق، حساس بطبعه، يحنُّ على الفقراء حتى في المراحل التي كان فيها أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، وقد كان قومياً عروبياً نقياً، ومثقفاً عضوياً، ومتحدثاً بارعاً، وكانت لديه أحلام كبيرة وكثيرة، وكان يزوره الكثير من الأصدقاء والمعارف والأقارب ويشتد النقاش بينهم حول الكثير من القضايا السياسية، فكان يغضب بصمت ولا يعلو صوته بتاتاً، وكان يمتلك صوتاً جميلاً، ويؤدي، أحياناً، بعض المواويل والعتابا والميجنا، أداءً ساحراً، حين يظن بأنه في عزلة عن الآخرين، وكان له تأثير كبير عليّ، وله الفضل في تشجيعي على الكتابة والتأليف، كان أبي شجاعاً مقداماً وشامخاً كالجبل، وكان معلمي وملهمي، وفي أعوامه الأخيرة، بعد أن عصف به المرض، تحوّل إلى صديق حقيقي، وبدأ يتخلى عن صرامته ويغدو ليناً، يحنو علينا، نحن أبناءه وأحفاده، لا يغادر البيت، ولا يتحدث إلا نادراً، وهو لم يفارق مخيلتي ما حييت، وأفرح كثيراً عندما أرى الكثير من الناس الذين عرفوه، والذين لم يعرفوه شخصياً يحبونه ويحترمونه".

أصدقاء الطفولة

ويتابع "أسترجع الذاكرة، وأعود إلى الطفولة، وإلى قراءة سطور الذات في فصول الحياة، في خليط من الصور والأحاسيس والأفكار، لقد كان لي عدد محدود من الأصدقاء في طفولتي، أتذكرهم جميعاً، حتى الذين رحلوا في وقت مبكر، وما زلت على علاقة وثيقة بأصدقاء، استمرت منذ أن كنّا في السادسة من العمر، منهم من التقيت بهم في الدراسة الابتدائية، وأصدقاء الطفولة لهم عندي مكانة خاصة، لا يمكن نسيانهم مهما طال الأمد ودارت الأيام، ولا يمكن تعويضهم، وأشعر دائماً بالنشوة عندما أسترجع ذكريات الصداقة القديمة، وهناك أشخاص معدودون يتسارعون لاحتلال مساحة معينة من ذاكرتي كلما خطر ببالي أن أسترجع الماضي، وهذا بالضبط هو ما عبّرت عنه قصيدة (طفولة) المنشورة في ديواني الأول (أرض مشاكسة):-
ونلعبُ بين الأزقة
نلهو
ولمّا نزلْ
صبيةً أشقياءْ
على صهوةِ الحلْمِ نرحلُ كل مساءْ
تحفُّ الطفولةُ أحلامَنا
وتمسحُ عنّا غبارَ العناءْ".

جمع الطوابع

وعن أهم هواياته بمرحلة الطفولة يذكر: "تكاد تكون اهتماماتي المبكرة والتي عرفتها في سنوات تكوّني الأولى، هي الاهتمامات الحالية، فقد كانت المطالعة وما زالت هوايتي الأولى، تليها هواية الشطرنج التي شغلتني منذ سنوات طفولتي، والتي ما زالت تستأثر باهتمامي في المتابعة لا بالممارسة، وأشعر أن هذه المتابعة تمنحني فرصة تفريغ طاقة كامنة في داخلي، أما هوايتي الثالثة فهي جمع الطوابع، والتي كانت تشكل بالنسبة بي وسيلة لاستكشاف العالم والبلدان المتنوعة وتاريخها وأعمالها الفنية وثقافاتها المتعددة، فالطابع البريدي سفير متنقل يعرفك بأبرز العادات والتقاليد في مختلف دول العالم، إضافة إلى أن كثيراً من الطوابع تحمل صوراً لمشاهير العالم وتصور الأحداث التاريخية وتطور العلوم وفنون المعمار". 

قراءة الذات

يقول: "عبر مشاهد تتماوج في أعماق الذاكرة على تخوم التصوّر واليقين، أو الحلم والواقع، أذكر صورة أستاذي الحازم (نزيه الحكيم)، أستاذي الأول في مدرسة جابر بن حيان الكوفي التي تخرج فيها آلاف الطلاب وتوزّعوا في مختلف أنحاء الوطن ودنيا الاغتراب، وأربعة أرجاء الأرض، ما زلت أذكره وأذكر حيوية حديثه عن الأدب العربي بما يختلف عن الآخرين، وحين انتقلت من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، كانت انتقالة مهمة جداً في حياتي، وهنا يجب أن أشير إلى دور المدرس وأهميته في تفتح وعي تلاميذه، ففي هذه المرحلة، التقيت بعدد من الأساتذة، تعرفت من خلالهم على عوالم جديدة، ما كانت لتتوفر لي وأنا في المدرسة الابتدائية، وقد أتيح لي في هذه المدرسة أن ألتقي بأستاذي الكبير (شتيوي حداد) حامل رسالة التغيير، المسيحي الذي كان يحفظ القرآن الكريم، والذي ترك أثراً لا يُمحى في نفسي، وتعلمت منه النهم الذي لا ينطفئ إلى المعرفة بأوسع معانيها، ولا زلت أذكر عندما كان يتحدث عن أساطير الإغريق وقصص الخيال الأدبي في ملاحم بديعة من القص الجميل، وقد تعلمتُ على يديه أن بداية المعرفة هي قراءة الذات من الداخل، وأن الثقافة قيمة إنسانية عالية ترتقي بالمجتمع والإنسان، وتعكس نتائجها عليهما، وأن الكلمة روح وجسد وعاطفة، تحتاج بكيانها إلى مكان يؤويها وينطلق بها، ولن ترى غير الشاعر الصادق سكناً لها".
ويضيف القاسم "بدأ تعلقي بالمطالعة في سن صغيرة للغاية مع أولى القراءات التي تتاح للأطفال، وقد ساعدني على المطالعة وجود مكتبة متواضعة في مدرستي الابتدائية، كان يشرف عليها أستاذ اللغة العربية، والذي كان له أكبر الأثر في تشجيعنا على المطالعة واستعارة الكتب من المكتبة، فكنت أروي ظمأي إلى القراءة، ولا أرتوي، وقد فرضت على نفسي في تلك الفترة أن أقرأ كتاباً كل أسبوع، وفي مختلف الموضوعات، وأتيح لي في هذه المرحلة أن أقرأ كتاب رجال حول الرسول لمؤلفه خالد محمد خالد والذي ترك أثراً كبيراً في نفسي، وقد كنتُ أطالع بشغف الآداب الأجنبية، واستهواني الشعر ولم أجد صعوبة في فهمه، ولم يكن عمري وقتها قد تجاوز الـ15، ولعل ثقافتي تأسست على هذه القاعدة المتنوعة منذ تلك الأيام".

متعب ورحب الآفاق

ويوضح "لقد بدأت السير في طريق الكتابة عبر: المطالعة أساساً، ثم المطالعة والتجربة الحياتية ثانياً، ثم المطالعة والممارسة الكتابية ثالثاً، أي عبر تراكم الثقافة والمعرفة واشتداد الرغبة، والتطلع إلى الآتي، ومع الأيام، ومع تكاثر القراءات وتنوعها، بدأت أشعر أن تنامي المخزون في داخلي يتطلب، ربما، أن أعبر عن نفسي بشيء ما: مكتوب! فدخلت في تجربة الكتابة، وحدي ولنفسي، مذكرات وخواطر وهواجس وآراء، وكانت الدفاتر الصغيرة رفيقة دربي باستمرار، وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت أعلن عن كتاباتي! وصرت أعرض بعض هذه الكتابات على أساتذتي الموثوقين فيزودونني بملاحظاتهم وبتصحيحاتهم للأغلاط اللغوية ولطرائق إدارة الجملة، فأسجل كل الملاحظات، في محاولة جادة مني للتصليح والتصحيح وسدّ الثغرات، وصرت من أسعد الناس يوم نشرت لي مجلة (البيان) اللندنية أولى قصائدي، ثم نشرت، لاحقاً، بعض قصائدي في مجلة (الأمة) ومجلة (الهدف) ومجلة (مشارف) ومجلة (أفكار) ومجلة (صوت الجيل) ومجلة (الرافد)، وحسبت أنني صرت شاعراً ولم أعرف إلا في سنوات لاحقة أن طريق الوصول إلى الكتابة طريق متعب طويل ومتواصل وممتع ورحب الآفاق ولا ينتهي، ويحتاج دائماً إلى الثقافة والمعرفة، فإذا شعرت يوماً أنك وصلت، فهذا يعني أنك توقفت في مكانك".

رونق خاص

ويضيف "مضى زمن طويل على تلك الرحلة إلى دمشق التي سحرت زوارها وكل من مرَّ بها، وقد كانت دمشق التي "تغار منها بابل وأوروك"، هي المدينة الأولى التي ذهبت لزيارتها ووجدتها مدينة لها رونقها الخاص، شعبها هادئ وطعامها لذيذ، وجغرافيتها مميزة، وأكثر ما تتميز به دمشق: الساحات الجميلة، والأبنية التاريخية، والشوارع الضيقة، ومناخها المتوسط على مدار أيام السنة، وبمجرد أن تصل إليها يبدأ الشعور بالألفة السريعة مع هذه المدينة الساحرة".
ويختم عن أثر الحب في تجربته "الحب جوهر الحياة، ولا أستطيع أن أحيا دونه، وقد كانت حواء وما زالت هي الشطر الأساسي في حياتي، ولا شك أن المرأة لها مكان كبير في تجربتي، وذلك ينبع من قيمتها الكبيرة كإنسانة أولاً وشريكة ورفيقة درب، وفي تجربتي، تجدها تظهر واضحة في قصائد الحب المباشرة، ولكنها تظهر أيضاً بثياب أخرى، فمرة تكون الأمل، وأخرى الطريق، أو الحلم، ولي أن أعترف أنها ملهم أساسي في تجربتي، لكنني أرى أن الحب ليس بالترتيب ولا بالمراكز إنما بالصدق المتبادل، فهو تجربة تصهر الإنسان بالفعل وتجعله يواجه ذاته والآخر والعالم من حوله فتثريه، وبهذا المعنى فقد كانت لبنى كمال هي حبّي الأول، وهي حبي الحقيقي وزوجتي التي لا أستطيع التخلي عنها، فهي الطاقة التي أستمد منها كينونتي، وتسامحي وأملي في الحياة، وأنا مدين لها، وأستعين بها في كل لحظة، ففي كل علاقة عشتها، كانت هي منبعاً صافياً ورؤيةً جديدة لذاتي، فهي شريكة المسرات والغصات، وشريكة الكلمة والحرف، أكتب ديواني وأعطيها إياه لتقرأه، فتعطيني ملاحظاتها التي ألتزم بالكثير منها، ونناقش ونغير، وبعدها أدفع بالديوان إلى الطباعة، إنها المرجع في كل إنتاجي".