السبت 26 يوليو 2014 / 01:06

فتحي عبد السميع: لم أحلُم بالكتابة النقدية

الشاعر فتحي عبدالسميع ألقى محاضرة مؤخراً عن "المقدس في السيرة الهلالية"، بقصر ثقافة قنا، وهذه المحاضرة تأتي في إطار اهتمامه عموماً بالسير والمأثورات الشعبية، كما أنه انتهى من كتابة عمل متكامل حول ثقافة الثأر، وهو من المتابعين نقدياً لما يصدر من شعر ورواية وقصة، فهل أضافت تلك الاهتمامات إليه كشاعر؟ هنا شهادة للشاعر فتحي عبدالسميع.

فتحي عبدالسميع: بدأت بالكتابة عن الإبداع بعد موت الشاعر سيد عبد العاطي الذي كنتُ أعتبره شاعراً رائعاً وأستاذاً وصديقاً لم ألتق حتى الآن بمَن هو في نُبلِه، وكان موتُه بالنسبة لي صاعقا، وعزَّ عليّ مرورُ هذا الحدث دون كلمة عنه.

المأثورات الشعبية
هناك عدة أسباب متداخلة لاهتمامي بالمأثورات الشعبية، وأهمها في ظني هو قراءة الذات. فعندما تبدأ في تلمس هويتك الحقيقية، ورصد تكوينك الخاص، وتأمل محتوياتك الداخلية، تبدأ في بناء نفسك وفق ما تريد، وما تريد أنت، لا وفق ما يرغب الآخرون، وقراءة الذات بدت لي في لحظة من اللحظات من الضرورات الشعرية، فالشاعر الذي لا يقرأ ذاته، لا يمكن أن يصبح شاعراً حقيقياً، وهكذا أخذتني قراءة الذات إلى الثقافة الشعبية، فقد كشفت لي أن هناك قشرة خارجية خفيفة تمثل ثقافتي العامة، أما ثقافتي الحقيقية فهي التي انغرست فيَّ بشكل لا شعوري في سنوات التكوين الأولى، وصارت جزءاً لا يتجزأ من كياني، يربطني بشكل عفوي ومتين في نفس الوقت بالجماعة التي أنتمي إليها، تلك الثقافة في الحقيقة تلعب في حياتنا أدواراً بالغة الأهمية على كافة المستويات، والكثير جداً من تصرفاتنا ترجع لتلك الثقافة الموروثة التي تنتقل إلينا بصورة تلقائية، وتكاد تفرض علينا سلوكنا في الكثير من المواقف، وهكذا ظهر لي أن رصد تلك الثقافة الشعبية، وتأملها وفتح باب للحوار معها، من الأمور الضرورية جداً، على المستوى العام والمستوى الذاتي الخاص معاً.

ثقافة الثأر
لأسباب كثيرة انشغلت بثقافة الثأر، وخصصت لها عدة سنوات من حياتي، وأسفرت تلك الرحلة عن عدة كتب، أولها هو "طقوس الثأر"، الذي نظرت فيه للممارسات الثأرية بوصفها سلوكا طقسياً، يعتمد على التنظيم، والترتيب، والترميز، وينتمي لطقوس العبور، وتناولت علاقة الطقس الثأري بفكرة المقدس، و قمت برصد وتحليل علاقته بالزمان والمكان، والأداة المستخدمة، ووضعية الجسد، كما قمت بدراسته في إطار منظومة الطقوس الأخرى، مثل طقوس الموت، وطقوس الخصوبة، أما الكتاب الثاني فتناولت فيه المصالحات الثأرية، بوصفها سلوكا طقسياً، يدور في إطار فكرة القربان البديل، وقمت بتناول مفهوم القربان، وأنواعه مثل القربان الطاهر والقربان والنجس، وعلاقة الأفكار القربانية بمشكلة العنف، ونظام القرابة، أو النظام القبلي، ثم قمت بتقديم وصف للعناصر الطقسية المختلفة، وتحليلاً لرسالتها الرمزية، ثم بحثت عن أصول تلك العناصر، وبدأت في ثقافة عرب ما قبل الإسلام، ثم الثقافة الإسلامية، ووجدت طقوس المصالحات الثأرية تنبع من ثقافة مصر القديمة، وبينت ذلك بالتفصيل، ثم وقفت أمام علاقة الثأر بالتسامح، وقمت بتفنيد ما أسميته بأسطورة التسامح المستحيل، وبينت لماذا يبدو التسامح في بعض المواقف مستحيلاً بخلاف الحقيقة التي تقول إن التسامح أمر واقعي وممكن في الظروف كافة، متى أدركنا حقيقة مفهوم التسامح، وقد جاء ذلك التناول مع رصد طبيعة التسامح في الثقافة الشعبية، التي تقوم في جوهرها على التسامح بخلاف ما هو شائع. وأخيراً توقفت عند تناول الأعمال الفنية لمشكلة الثأر بشكل عام، ومشكلة المصالحات الثأرية بشكل خاص، وقدمت قراءة ثقافية لفيلم "دماء على النيل"، وبينت كيف يختلف الفن عن الواقع، وكيف أخطأت الأعمال الفنية عندما ركزت على القتل الثأري ولم تركز على المصالحات الثأرية، وكيف لعبت دوراً سلبياً في ترسيخ صورة مشوهة للمجتمع الصعيدي، تظهر فيها صورة الصعيدي مرتبطة بالعنف، بينما الصورة الحقيقية للصعيدي ترتبط بمنهج اللا عنف، وتتسم شخصيته بالحكمة أكثر من اتسامها بالتهور كما نستخلص من الأعمال الفنية . أما الكتاب الثالث والذي أسميته "الفكر المسحور" فتناولت فيه مفهوم الثأر، ووضعت تعريفا له، بعد أن فشلت الدراسات السابقة في تقديم تعريف للثأر، وأغلبها لم تتطرق لمسألة التعريف مما أدى إلى الكثير من اللبس، والخلط، ثم تناولت علاقة الثأر بالجغرافيا، وعلاقة الثأر بالتفكير الأسطوري، والتفكير المسحور، وأخيراً هناك دراسة قيد الإنجاز تتناول الثأر من منظور تاريخي يبدأ من العصور الحجرية .

الكتابة النقدية
الحقيقةُ أنني لم أحلُم بالكتابة النقدية، بل أراها خطراً على حُلمي الأساسي وهو الكتابة الشعرية، ويكفي أنها تستنزف مِن وقتي الذي لا يكفي أساسا لشروط الكتابة الإبداعية، فمعظمه مهدور في أمور أخرى تخص البقاءَ كغالبية المبدعين، وظهرتْ فكرة الكتابة عن الإبداع ولا أقول الكتابة النقدية بعد حدث معين، وهو موت الشاعر سيد عبد العاطي الذي كنتُ أعتبره شاعراً رائعاً وأستاذاً وصديقاً لم ألتق حتى الآن بمَن هو في نُبلِه، وكان موتُه بالنسبة لي صاعقا، وعزَّ عليّ مرورُ هذا الحدث دون كلمة واحدة، فالصمتُ عند رحيل المبدع لا يرتبط بالراحل بل ينسحب بالضرورة على إبداعه، واتصلتُ وقتَها بعدد مَن أصدقائه المقيمين في القاهرة لأخبرَهم بموتِه، وبعضُهم يعمل في الصحافة، ويقدّره كشاعر، لكن حرفاً واحداً لم يُكتبْ عنه ..! وساعتَها داهمَني إحساسٌ بأن المبدعَ المقيم في الجنوب محكومٌ عليه بالموت حياً وميتاً، وبدأتُ في كتابة مقال عن سيد عبد العاطي، كما بدأتُ في الاهتمام بالكتب النقدية على أمل امتلاك القدرة على الكتابة، ومع انشغالي الدائم بالحركة الأدبية في الجنوب زادت الحاجة لتوسيع نطاق ذلك الاهتمام، خاصةً مع الغياب شبه التام للنقاد في الجنوب، وهكذا ظهرتُ في مئات الندوات كمعلِّق على النصوص أكثرَ مما ظهرتُ شاعراً، وكنت أرى في ذلك واجباً لا حُلماً. وكأثرٍ لهذا الواجب، قدمت قراءات كثيرة لكتابات الأدباء الذين يقيمون في الصعيد. وعندما نظرت لتلك الكتابات وجدت قسماً منها يتمحور حول فكرة المقدس بشكل ما، فجمعتها في كتاب اخترت له اسم "الجميلة والمقدس"، واشتمل الكتاب على عدة موضوعات هي اللغة الخلاقة والحروف المقدسة، السحر والكتابة والمقدس، الشاعر والأسطورة والمقدس، السرد والخرافة والمقدس، الشاعر و المقدس الشعبي، حكايات الجان وخطاب الخوارق، الرعوية وجنة أركاديا، الحكاية الشعبية والنموذج المقدس، والكتاب قدمته منذ فترة طويلة لسلسلة كتاب الهلال، وأتمنى صدوره قريباً.