وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف (أرشيف)
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف (أرشيف)
الأربعاء 27 فبراير 2019 / 20:06

محنة الخارجية الإيرانية

ذُكرت أسباب كثيرة في معرض تفسير الاستقالة، التي لم تُقبل لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف. قيل إنه احتج على تجاهله لدى زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران، حتى أن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ، حل محله في استقباله.

محنة الخارجيّة الإيرانيّة تعاظمت مع الاتّفاق النوويّ ثمّ مع إلغائه: ذاك أنّ هذا الحدث، في طوريه، جعل التناقضات كلّها تحتدم وتندفع إلى حدود قصوى

 بل قيل إنه "وُضع في العتم" عند التحضير للزيارة التي لم يعرف بها. قيل أيضاً إنه على خلاف مع الرئيس حسن روحاني الذي يبدو أنه أكثر استعداداً منه للمساومة مع الراديكاليين.

 قيل كذلك إنه أغضب المرشد الأعلى علي خامنئي إذ أبدى شيئاً من الإيجابية حيال المقترحات الأوروبية، فبادر خامنئي إلى مهاجمتها ووصفها بأشرس النعوت. وليس جديداً أن الحرس الثوري ومعه باقي المتشددين لا ينظرون بكبير تقدير إلى ظريف، بل يعتبرونه الرمز الأكبر لسياسة التفريط والتنازل.

النبرة التشكيكية هذه ازدادت ارتفاعاً مع خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النوويّ الذي اعتُبر توقيعه أهم إنجازات ظريف.

ما من شك في أن معرفة الحقيقة تبقى دائماً أمراً صعباً في الأنظمة المغلقة، وفي عدادها النظام الإيراني. لكن ثمة إيحاءات كثيرة تحمل على القول إن الأسباب المذكورة أعلاه صحيحة كلها، بهذه النسبة أو تلك.

بيد أن تلك الأسباب تندرج في التجليات أو النتائج، إلا أنها حكماً لا تفسر منشأ الأزمة الأم.

هنا، لا بد من استعادة ما يمكن أن نسميه محنة الخارجية الإيرانية، وبالتالي محنة الشخص الذي يتولاها.

ففي تاريخ ذاك النظام منذ قيامه في 1979، كانت السياسات الخارجية السبب الأهم في سقوط معظم الرؤوس الكبرى.

يصح هذا في المهدي بازركان، أول رئيس حكومة في العهد الجمهوري، وفي أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية، كما يصح في ابراهيم يزدي، أول وزير للخارجية، وفي قطب زادة الذي تولى أيضاً وزارة الخارجية قبل أن يُعدم كـ "متآمر" رمياً بالرصاص.

المسألتان الخلافيتان يومذاك كانتا احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز العاملين فيها، واستمرار الحرب مع العراق.

حتى في حالة حسين علي منظري، الذي كان نائباً للمرشد السابق الخميني، كان للسياسة الخارجية دورها الملحوظ: ذاك أن السبب المباشر للنزاع كان إعدام شقيق صهره ومسؤول "مكتب حركات التحرر" مهدي الهاشمي لاتهامه بإفشاء أسرار "إيران غيت". لاحقاً، تبين أن منتظري كان أيضاً معارضاً لإطالة الحرب مع العراق.

نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي أن المطالبة بسياسة خارجية مختلفة غالباً ما اقترنت بالمطالبة الأخطر: سلوك سياسي يكون أكثر توفيراً للحريات.

والنظام الإيراني نفسه، وهو في هذا تلميذ نجيب للستالينية، كان دائم الربط بين الانفتاح "المشبوه" على العالم، حتى لو في المجال الثقافي فحسب، وبين "التآمر" في الداخل.

واقع الحال أن محنة الخارجية الإيرانية تعاظمت مع الاتفاق النووي ثم مع إلغائه: ذاك أن هذا الحدث، في طوريه، جعل التناقضات كلها تحتدم وتندفع إلى حدود قصوى:

هل تُمنح الأولويّة لحاجات البلد الاقتصادية أم لشروط استمرار المجموعات الحاكمة في السلطة، مع ما يعنيه ذلك من مصالح وامتيازات؟

وكيف يتم التوفيق بين المقدّمات الإيديولوجية وبين الاعتبارات الواقعية والبراغماتية؟

وهل تبقى إيران بلداً مهدداً للاستقرار، داعماً لأطراف كحزب الله اللبناني، ومن طبيعة تدخليّة كما في سوريا، أم تدخل طوراً من الاستقرار والتصالح مع الذات ومع المحيط والعالم؟

ما لا شك فيه أن وزارة الخارجية هي المرآة التي تعكس هذه التناقضات أكثر من سواها. لذا يتحول كل امتداح يأتي من الخارج لظريف، بوصفه "تخرج من الولايات المتحدة" و"ديبلوماسياً ماهراً ومرنا"، إلى تسعير لمحنته في الداخل!