الخميس 14 مارس 2024 / 13:55

كُتُبٌ مٌبْصِرَةٌ (2ــ 8)

" حتَّى الملائكة تسأل".. مفتاح الدٌّخول إلى الأرواح

"تأتينا الكُتُب محمّلة بمعرفة ـ يقينية أو ظنية ــ هي بنات أفكار مؤلفيها، فتأخذنا معها إلى عوالم المتعة، والبحث، والمساءلة أحيانا، ومن خلال البصيرة ـ تدبراً وتأملاً ـ نستحضر معها الماضي، ونعيش معها الحاضر، ونتسابق معها نحو غد واعد، فتبدو لنا الأماكن مفتوحةـ والزمن ممتدا، حتى لو كانت الكتب متعلقة بقضية واحدة، تنوعت الرؤى حولها، وتعددت طرق البحث فيها، على النحو الذي سنراه في هذه القراءة الرمضانية لثمانية كتب، خاصة بـموقع (24:)

طرح إشكاليَّة المعْرفة ضمن بحث متواصل ومستمر، كانت ـ ولا تزال ـ إحدى القضايا الرئيسة التي تشغل الباحثين، لأنها نابعة من مسألة التفكير، خاصة حين يتعلق الأمر بالأسئلة الوجودية ذات الطابع الإيماني القائم على رؤى الأديان وقيمها وأخلاقياتها، إضافة لنظرتها للزمن ببعديْه الدنيوي والأخروي، من حيث حدود التصور والتمكين للمباح وللمفروض، أو بلغة الدين للحلال والحرام.
وهذه النظرة على ما فيها من استدراج نحو العواطف، وأحيانا التعصب إلى درجة الاستغراق الكلي، كونها تتعلق بالإيمان من عدمه أوّلاً، وثانياً لصلتها بالاختيار غير الواعي من طرف العامّة، وحتى كثيرا من عناصر النخبة، على النحو الذي نشهده اليوم في تبني موضوع "المقدس"، دون وعي بنشأته، ولا بمراحل تطوره، ولا حتى بالتبعات التي تنتج من الدفاع عنه، إلا أنها قد تسهم في بلورة وعي متطور، خاصة إذا استندت إلى نص يقيني من طرف أصحابها، أو شبه يقيني من الداخلين في الدين أفرادا وزرافات، وفي بعض الحالات أفواجاً.
 ربما يكون المثل الأكثر وضوحا للطرح السابق، هو ما ذهب إليه الكاتب الأمريكي "د. جيفري لانغ Jeffrey Lang" في كتابه "حتى الملائكة تسأل.. رحلة الإسلام إلى أمريكا.. EVEN ANGLES ASK AJOURNEY TISLAM IN AMERICA  "، حيث انطلق من مسألة تحريك العقل المسلم، مسترشدا هنا بما جاء في القرآن، انطلاقا من سؤال الملائكة، كما سنرى لاحقا.

عقيدة الرجل الذي يفكر

لقد انطلق جيفري لانغ في كتابه هذا من مخاطبة أجيال المسلمين في أمريكا، على أساس أنهم يمثلون لديه حالة عامة في بعدها العقائدي متمة لحالة إيمانية فردية تحدث عنها في كتابه الأول" الصراع من أجل الإيمان"، لينطلق بعد ذلك للبحث في فضاء أوسع، سمّاه "رحلة الإسلام في أمريكا"، تناول فيه أوضاع المسلمين هناك من زاوية الالتزام بالدين من خلال ممارسة الطقوس وتأدية الشعائر الدينية من عدمها.
وبهذا الخصوص ركز على الذين تعود أصولهم إلى المجتمعات الإسلامية، ومنهم من هم اليوم في الجيل الثالث، وأصبحوا أمام أسئلة مصيرية تتعلق أساسا ببقائهم في الإسلام كونه ميراثا حضاريا ودينيا أو الخروج منه.  
من ناحية أخرى فإن لانغ، كما يقول المترجمد. منذر العبسي: "ناقش وضْع الجالية المسلمة في شمال أمريكا، وقدم صورة واقعية للمسلمين هناك، وأعطى تصورا لمستقبلهم، وكتب صفحات رائعة عن القرآن وعن شعائر الإسلام.." (ص 8)
وذلك بالاعتماد على قاعدة ترسخت لديه، وهي "أنه لا يستطيع الإيمان بدين، ما لم يكن هذا الدين مُخْضِعاً من الناحية العقلانية والفكرية والروحانية، وهذا الدين هو الإسلام، والإسلام هو عقيدة الرجل الذي يفكر"(ص 12)، وهذه النتيجة وصل إليها بعد تساؤلات عديدة طرحت في ذهنه، تعلقت بالوجود الدنيوي، والمصير الأخروي، والأكثر من ذلك غاصت في بحور البحث عن إجابات تخصُّ "العدل الإلهي".

أسئلة الجنّة.. وقصة الإنسان

ومن بين تلك الأسئلة التي أقضت مضجعه، ومن خلالها اهتدى عبر القرآن إلى إجابات بدت له مقنعة، نذكر الآتي:
·        لماذا لم يدعنا الله في الجنة وللأبد من البداية؟
·        ولماذا جعل فينا عيوبا كي يعاقبنا بها بآلامنا على هذه الأرض؟
·        ولماذا لم يجعل منّا ملائكة أو مخلوقات أفضل؟
·        وأين العدالة وأنا لم أختر طبيعتي، وأنا لم أخلق الغواية والإغراء، وأنا لم أطلب منه أن يخلقني أصلا، وأنا لم آكل من الشجرة الملعونة؟
·        وهل خطر ببال أحد أن عقاب الله لنا يفوق كثيرا حجم جريمتنا؟
·       ألم يكن من الأفضل لو أننا لم نخلق اصلاً ما دام الشر كامنا فينا؟
كل تلك الأسئلة وغيرها وجد جيفري لانغ إجابات لها في القرآن، حيث وقف عند آياته متأملا مقصدها ودلالتها وهدفها، ومنها الآية 30 من سورة البقرة، التي تحكي قصة بداية خلق الإنسان، والتي يقول فيها المولى عز وجل: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
بناء على سؤال الملائكة في الآية السابقة وجواب الله لهم، ثم ما جاء في الآيات الأخرى إلى غاية الآية 37 من سورة البقرة، انتهى المؤلف إلى القول: "كن مطمئنا إلى أن القرآن لن ينقنا إلى أهدافنا بيسر، أو يزودنا بتوجيهات في مراحل مختلفة، بل إن الرحلة والاكتشاف أمر خاص بنا.. وإن الأسئلة التي نطرحها ليست أسئلة عن الله فقط، بل إنها أسئلة حول أنفسنا.. ونحن الأشخاص الوحيدون الذين يملكون مفتاح الدخول إلى أرواحنا"(53)، وهكذا فعل جيفري لانغ، وقد يكون ذلك ما يجب علينا جميعا فعله.