الإثنين 1 أبريل 2024 / 12:49

كتبٌ مبصرةٌ (7ــ 8)

"الفن الإسلامي والمسيحيّة العربيَّة".. ذلك التراث الثّقافي العائد

تأتينا الكُتُب محمّلة بمعرفة ـ يقينية أو ظنية ــ هي بنات أفكار مؤلفيها، فتأخذنا معها إلى عوالم المتعة، والبحث، والمساءلة أحيانا، ومن خلال البصيرة ـ تدبراً وتأملاً ـ نستحضر معها الماضي، ونعيش معها الحاضر، ونتسابق معها نحو غد واعد، فتبدو لنا الأماكن مفتوحة، والزمن ممتدا، حتى لو كانت الكتب متعلقة بقضية واحدة، تنوعت الرؤى حولها، وتعددت طرق البحث فيها، على النحو الذي سنراه في هذه القراءة الرمضانية لثمانية كتب، خاصة بموقع 24
ما أحوجنا اليوم في العالم العربي إلى حوار ثقافي متبادل بين أتباع الأديان في فضاء حضاري واحد، يفضي إلى تكريس قيم التسامح والتقارب، والأكثر من ذلك إلى "تعارف" يحقق إنسانيتنا، بما يمنع أو يحول دون انتشار أفكار أو أعمال متطرفة أثبتت العقود الثلاثة الماضية خطورتها على صعيد الجبهات الداخلية في أوطاننا، وعلى علاقتنا بالآخر على صعيد العلاقات الدولية.
وإذا كنا لا ننكر قيام ذلك الحوار في مراحله الأولى خاصة على المستوى المؤسساتي، إلا أنه لايزال رهينة اجتهادات قائمة على رد الفعل، لذلك لا نرى، عمليّاً، حواراً متعمقاً في مختلف قضايانا المنبثقة من ثقافتنا الدينية، بقصديّة الإعلاء من قيم المشاركة، وتثبيت الإسهام الحضاري للشركاء الدينيين (مسلمون ومسيحيون مثلا) في هذه الدولة العربية أو تلك، بحيث تقوم العلاقات على مرجعية تأصيلية، من ذلك استحضار التراث المشترك الذي قامت عليه حضارتنا العربية ـ الإسلامية في كل المجالات، ومنها الفن، كونه لا يشكل في الغالب خلافاً بين الشركاء من منطلق سياسي، مكتفياً بالنظر إليه من زوايا الجمال والفلسفة والثقافة، وقد يقيّم من الناحية الدينية أيضاً.

الأمويون والروم.. والثقافة الغائبة

والحوار المطلوب أو المرتجى، لا يقف عند أنواع الخطاب المختلفة، ولكنه يتحقق، وربما بصورة أعمق، من خلال النصوص المكتوبة التي تبحث في جذور القضايا وأصولها، وإشكالياتها على النحو الذي بدا جليّاً في كتاب "الفن الإسلامي والمسيحية الحضارية.. دور المسحيين العرب في تكوين الفن الإسلامي"، تأليف شاكر لعيبي.
من أول عبارة في الكتاب نجد شاكر لعيبي يقودنا نحو مقارنة لابد منها ـ يراها تعسفية ـ بين نوعين من الفن، الأول: يحمل توصيفاً إسلامياً لصيقاً بالدين، والثاني: نتاج ديانة أخرى هي المسيحية، وما تنتجه من فن يحمل "الرسم التشخيصي"، وهذه المقارنة ستظهر وتختفي بعد ذلك، أي حسب الحاجة إليها، عند مناقشته لمختلف القضايا المتعلقة بدور المسحيين في صناعة الفن الإسلامي.
من ناحية أخرى، يقف المؤلف عند أمور ثلاثة أراد التنبيه إليها، باعتبارها مدخلاً لدراسته، أولها: جهل غالبية القراء العرب لتاريخ الفترة الواقعة قبل ظهور الإسلام، وثانيها: الغموض الشديد لدى القراء العرب اليوم عن الدولة البيزنطية، بصدد من يسميهم التاريخ الإسلامي بالروم، وثالثها: أن سكان سوريا والعراق والجزيرة الفراتية التي كانت خاضعة للحكم البيزنطي والساساني لم تكن خالية من السكان الأصليين، وهؤلاء كانوا إما من الآراميين أو العرب المسيحيين.
ومن خلال تلك التنبيهات يعبر بنا المؤلف إلى الضفة الأخرى من البحث، وهي في نظري لا تخص تاريخ الفن في منطقتنا العربية، وإنما تعني كثيراً من القضايا الثقافية الأخرى، هنا يقول لعيبي: "لقد حققت الدولة الأموية انتصارات عسكرية كاسحة على الروم (أي البيزنطيين) فوق مجمل الأراضي السورية، يتكلم تاريخنا عن انتصارات عسكرية وسياسية، لكنه يتناسى غالباً أن يحدثنا عن الثقافة، عن ماهية وطبيعة الثقافة التي كانت سائدة في الشام يومها.."(9).

المخطوطة الإسبانيّة

غياب البحث أو الاهتمام بالأصول الثقافية لتلك المرحلة من التاريخ ترتب عليها اختلال في المنظومة الفكرية العربية في مجال الفنون صار علينا لزاما تصحيحها، ذلك "لأن الفن الإسلامي ـ كما يقول شاكر لعيبي ـ متهم بتقليد الفن البيزنطي، لكن هذا الأخير نتج من مساهمة جذرية من طرف سكان منطقتنا المسيحيين"، ومع ذلك فقد نُفي المسيحيون العرب من مجالهم الثقافي الطبيعي، ونُظر إليهم كحالة استثنائية داخل الحضارة العربية الإسلامية.
لقد عمل المؤلف لأجل وضع الإنجاز الفني للمسيحيين العرب في مكانه المناسب، وذلك بمناسبة مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية الإسبانية في مدريد، حيث وجد فيها منمنمات كثيرة منسية يمكن نسبتها إلى فنانين مسيحيين عرب وليس إلى بيزنطيين، وقد هدف لعيبي من وراء ذلك إلى إثارة مسألة المساهمة المحلية في تكوين الفن البيزنطي، وكذلك لأجل إعادة الاعتبار لرسامين عرب مسيحيين محسوبين لصالح بيزنطة، رغم أنهم قد أنتجوا ـ كما يشير تاريخ المخطوطة ـ في الفترة الخصبة من عمر الحضارة العربية الإسلامية.
غير أن الكاتب لا يتوقف بحثيّاً عند تلك المرحلة الهامَّة من التاريخ، بل يعبر منها إلى مراحل أخرى من تاريخ الحضارة العربية ـ الإسلامية، التي أسهم فيها فنون مسيحيون عرب، باعتبارهم جزءاً من هذه الحضارة ـ دون نفي تقاليدهم الدينية ــ "ذلك لأنه لا توجد إلا تماثلات تاريخية، جغرافية وإنسانية بينهم وبين أقرانهم من المسلمين العرب.. إنهم أبناء الحضارة ذاتها، مثلما البوذي والمسلم في الهند مثلاً أبناء الحضارة الهند"(85).
وعلى خلفية ما جاء في هذا الكتاب، يمكننا أن نعيش اليوم في سلام، حاملين قيم التسامح، وداعين لحوار ثقافي شامل ونوعي وهادف.